الجيش الجزائري في قلب معركة الدستور: رسائل دعم للرئيس

13 أكتوبر 2020
يعتبر الجيش أن الشعب الجزائري يثق به (الأناضول)
+ الخط -

اختار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن يكون خطابه الأول في خضم الحملة الانتخابية للاستفتاء الشعبي على مسودة الدستور الجديد المقرر في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، من داخل مقر وزارة الدفاع وقيادة أركان الجيش. وحمل ذلك إشارات سياسية عدة، في وقت لم تفوّت فيه المؤسسة العسكرية الفرصة لإبراز موقفها الداعم لمسودة الدستور، ولمجموع مسار الإصلاحات السياسية التي يعتزم تبون مباشرتها. لكن هذه المواقف وبقدر ما تضع الجيش في قلب مواقف سياسية في تتناقض مع تصريحات قيادته، التي تؤكد عدم تدخل المؤسسة العسكرية في القضايا السياسية، بقدر ما تتضمن رسائل عن تحالف وتوافق بين الرئاسة والجيش بشأن مجمل المشروع السياسي والمسار المقبل.

من النادر أن يصرّح قائد جيش جزائري لصحيفة أجنبية، لكن قائد أركان الجيش الفريق السعيد شنقريحة تحدث لصحيفة "نيويورك تايمز" قبل أسبوعين، قائلاً إن "الجيش لا يمارس السياسة ولا يتدخل في الشأن السياسي". غير أن تصريحاته وخطاباته التي تلت ذلك في مناسبتين، غاصت في قلب المعترك السياسي الراهن في الجزائر، وتضمّنت إعلان موقف واضح من أبرز قضية سياسية يجري النقاش بشأنها في الوقت الحالي، وهي مسألة تعديل الدستور. ولم تقتصر ملاحظات قائد الجيش على البنود الدستورية الجديدة المرتبطة بقضايا الدفاع الوطني ومسألة خروج الجيش إلى خارج الحدود، لكن الأمر تعدى ذلك إلى إعلان موقف شامل من الدستور ومن الاستفتاء الشعبي.


زار تبون وزارة الدفاع للاتكاء على الجيش في معركته السياسية

آخر خطابات قائد الجيش وأكثرها وضوحاً في هذا السياق، كانت خلال زيارة تبون إلى مقر وزارة الدفاع الوطني السبت الماضي، والتي بدا خلالها وجود انسجام لافت بين خطاب المؤسسة السياسية ممثلة بالرئيس، والمؤسسة العسكرية ممثلة في قائد الأركان، الذي أكد توقعه مشاركة شعبية واسعة في الاستفتاء الشعبي المقبل على مشروع تعديل الدستور. واعتبر أن موعد الاستفتاء الشعبي "لن يكون كسائر الأيام، بل سيكون من دون شك يوم انتصار آخر للشعب الجزائري، وبمثابة تتويج لهَبَّتِه السلمية الحضارية التي رافَقه فيها الجيش، والشعب الأصيل يُدرك تمام الإدراك، أَنَّه هو وحده من سيصنع هذا الموعد، بمشاركته القَوية في هذا الاستفتاء، لتكون هذه المشاركة، رداً قاطعاً وحاسماً، على كل المتربصين ببلادنا والمتآمرين عليها". ويُفسَّر توقع قائد الجيش مشاركة واسعة كرسالة سياسية بأن نسبة المشاركة ستكون كبيرة بشكل أو بآخر، وبما يحقق للدستور الجديد مشروعية شعبية.

وسبقت "مجلة الجيش"، التي تعد النشرة الرسمية لوزارة الدفاع وقيادة الجيش، تصريحات قائد الأركان بيومين، عندما نشرت افتتاحية تعبّر عن موقف المؤسسة العسكرية من الدستور ووصفته بأنه "مشروع يحمل بين طياته عديد المسائل التي تعالج مشاكل المواطن وتجيب على انشغالاته وتحد من معاناته وتفتح له أفق الأمل على غرار الحقوق والحريات والشفافية في تسيير دواليب الحكم والوقاية من الفساد ومحاربته وكل الممارسات السلبية التي كانت سائدة". واعتبرت أن التصويت على هذا الدستور في الأول من نوفمبر المقبل "يجعل من هذا اليوم المشهود انطلاقة حقيقية لبناء جزائر جديدة متحررة من كل المظالم والمفاسد والسلبيات، وبناء دولة قوية مهابة والتغيير الجذري الذي طالب به الشعب". وأسبغت الافتتاحية كل العوامل الإيجابية على هذا الدستور، وقالت إنه يسمح بتدشين عهد جديد من حيث "توفير كل الضمانات لنزاهة الانتخابات وبتقنين صارم للتمويل السياسي، للحفاظ على حرية الإرادة الشعبية وبمنح فرص متكافئة للجميع في التصويت والترشح، وحتى يحترم صوت الناخب ويتعزز المشهد السياسي بجيل جديد من الناخبين".

ويرى مراقبون لتطور مواقف الجيش السياسية في الجزائر أن الجيش يبعث من خلال هذه المواقف المعلنة بجملة رسائل سياسية. وقال الأستاذ في كلية علوم الإعلام والاتصال توفيق بوقاعدة، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "من المؤكد أن مسودة الدستور هي مشروع السلطة بكل أركانها، وتمت صياغتها باستشارتهم أو مشاركة النواة الصلبة للحكم، وتصريحات قائد الأركان وكذلك افتتاحية الجيش تؤكد أن المشروع هو أيضاً مشروع المؤسسة العسكرية وهي داعم أساسي له. وأفترض أن هذه التصريحات أرادتها السلطة لبعث رسائل للعديد من الأطراف الداخلية والخارجية، أولى هذه الرسائل أن الجيش يقف إلى جانب السلطة في خندق واحد ويدافع عن مشروعها". وأضاف أن "السلطة تريد استغلال المكانة التي يحوزها الجيش لدى الشعب لصناعة نوع من الثقة في المشروع الذي شكك فيه أنصار المؤسسة في المرحلة السابقة، ورأوا فيه انتكاسة وتراجعاً خطيراً عن المبادئ التي حماها الجيش خلال فترة الأزمة السابقة للانتخابات الرئاسية"، متابعاً "أعتقد أن تصريحات المؤسسة العسكرية تتنافى والشعار الذي ترفعه دائما لأنها في حل من العملية السياسية، وهذا يعتبر تدخلاً في الشأن السياسي وتغليباً لفريق على حساب آخر في العملية السياسية".

هذا التفسير يشير إلى أن موقف الجيش المعلن يضع القوى السياسية الرافضة للدستور، لاعتبارات تعود إلى تقديرها السياسي، على جانب مناقض مع المؤسسة العسكرية. لكن ثمة أيضاً تفسيراً مرتبطاً بتوقيت هذه المواقف وظروف إخراجها السياسي، إذ كان واضحاً أن التصاعد اللافت لموجة الرفض السياسي والشعبي لمسودة الدستور لاعتبارات متعددة. ومن هذه الاعتبارات إعلان قوى مؤثرة في الساحة الجزائرية عن تصويتها ضد الدستور الجديد، بما فيها قوى من الكتلة التي شاركت في الانتخابات الرئاسية الماضية. وأيضاً اشتغال قوى الرفض هذه على عوامل ونقاط حساسة بالنسبة للناخب الجزائري، كالهوية واللغة العربية وإلغاء التنصيص في الدستور على كون الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع. ودفعت كل هذه العوامل تبون إلى زيارة مبكرة إلى قيادة الأركان ووزارة الدفاع، للاحتماء بالجيش من أي مفاجأة ممكنة في نتائج الاستفتاء، والسعي إلى تصدير موقف مبكر من المؤسسة العسكرية بشأن موافقتها على الدستور الجديد، يحد من تمدد وانتشار موقف الرفض الشعبي والسياسي للدستور، لا سيما أن هذه المؤسسة ما تزال تحظى ببعض الاحترام لدى قطاع واسع من الجزائريين.


الدستور هو مشروع للجيش أيضاً ويدفع إلى تخفيف الانتقادات ضده

وفي هذا السياق، رأى الباحث الأكاديمي في الشؤون السياسية عمار سيغة، أنه وبغض النظر عن أن تصريح قائد أركان الجيش إزاء الدستور يتأسس على منطلق إدراكه بأن ثقة الشعب في المؤسسة العسكرية لا تشوبها شائبة، خصوصاً بعد لفظ الجيش لرعيل الضباط الذين تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء طيلة العشرية السوداء (1991 ـ 2002)، وموجة التشبيب في هياكل المؤسسة العسكرية، فإن الإخراج السياسي لموقف الجيش خلال زيارة تبون إلى مقر قيادة الأركان ووزارة الدفاع تضمن رسائل سياسية "تحمل دلالة على تمسك الرئيس بدعم الجيش لمسارات الإصلاح السياسي بما فيها مشروع الدستور المطروح للاستفتاء، وكذلك ضمان ورقة الجيش". وأضاف أن "العلاقة التقليدية التي دأبت الرئاسة في الجزائر عليها هو تمسكها بمظلة الجيش التي لا يجب التفريط فيها، ناهيك عن إدراكه بثقة الشعب في المؤسسة العسكرية التي لا تزال تحظى باحترام كبير لدى أطياف الشعب، وكسبها رهان السلمية في مسار الحراك الشعبي بضمان حماية مطلقة للمشاركين فيه. وثمة اقتطاع دعم معنوي من الجيش للمضي في المزيد من الإصلاحات السياسية والتي ستبدأ حتماً بتعديل الدستور وستكون أعمق في المحطات المقبلة. كما تعكس عمق الدور الذي لعبه الجيش في إعادة رسم معالم الخارطة السياسية في الجزائر، بعد فترة تحييده من قبل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة".

هذه التطورات تؤكد أن دور الجيش في المشهد السياسي في الجزائر لم ينته بعد، وتبون يعي ذلك أيضاً، ويعتقد أنه في ظل ظروف الهشاشة السياسية والمؤسساتية للبلاد، فإن الاتكاء على حائط الجيش يبقى الرهان الأسلم، لا سيما أن الجيش ظل ملتزماً بالدستور حتى خلال فترة كانت فيها السلطة شاغرة، لكن تبون يبدي من جهته استعداداً دائماً للإيفاء بحاجات الجيش المادية واللوجستية، والحفاظ على موازنته الكبيرة التي تفوق العشرة مليارات دولار سنوياً.

المساهمون