"لم يكن الشيطان يوماً في السودان أسود ذا قرون، بل كان مشيراً في الجيش، وضابطاً في الجهاز، وجنجويداً في الخلاء"، بهذه الكلمات لخّص الروائي السوداني بركة ساكن الإجابة على سؤال من يُشعل الحروب في السودان في روايته "مسيح دارفور"، حيث يشتعل الآن صراع عنيف بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" طاولت آثاره كل ولايات البلاد الـ18.
الجنينة تتأثر بنيران الخرطوم
بعد اندلاع القتال في الخرطوم بين الجيش و"الدعم السريع" في 15 إبريل/نيسان الماضي، انتقلت النيران إلى مدن أخرى على رأسها مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور. وعلى الرغم من بُعدها عن الخرطوم 1200 كيلومتر، لكنها كانت الأكثر تأثراً بما جرى في العاصمة، فتعرضت للتدمير والحرق، وسقط أكثر من 280 قتيلاً فيها، وما يزيد على 160 جريحاً خلال يومي 12 و13 مايو/أيار الحالي فقط، بحسب نقابة أطباء السودان، فيما يقول مواطنون إن العدد أكبر بكثير.
ويرى مراقبون في السودان أن الجنينة بموقعها الاستراتيجي أقصى غرب السودان، تمثل مدينة ذات أهمية كبيرة للخرطوم، خصوصاً في ظل الصراع الحالي، نسبة لوقوعها على الحدود مع دولة تشاد ويمكن أن تمثل مركز إمداد عسكري ولوجستي لـ"الدعم السريع" والمليشيات المساندة له، وباباً لدخول مليشيات من دول الجوار، مشيرين إلى أن المدينة ظلّت تتأثر بأي فشل سياسي وأمني أو صراع يندلع في الخرطوم.
دخلت مليشيات متحالفة مع "الدعم السريع"، وشنّت هجوماً كبيراً على أحياء في المدينة
المواطن أبو بكر عباس، من سكان مدينة الجنينة، قال لـ"العربي الجديد"، إن الاشتباكات بدأت بين الجيش و"الدعم السريع" يوم 24 إبريل الماضي، ثم انسحب الجيش وترك المدينة تحت رحمة مليشيات الجنجويد المساندة لـ"الدعم السريع" حتى احترق كل شيء. وتابع: حتى هذا اليوم لم تتدخل أي جهة حكومية.
وأضاف عباس: هناك طوابير طويلة من أجل الحصول على المياه داخل الأحياء، مع تكدس كبير للجثث في الشوارع، وهناك صعوبة في الحصول على المياه والأدوية وخدمات الكهرباء والإنترنت، مع توقف كل التدخلات الإنسانية والأمنية وخروج النظام الصحي عن الخدمة، وهناك إصابات وحالات وفيات، متابعاً أن "الوضع في الجنينة كارثي وسيئ للغاية".
ترويع وتهديد وحرب إبادة
إنعام النور، وهي صحافية وناشطة حقوقية في قضايا المرأة بالجنينة، فقدت 12 من أفراد أسرتها، وحُرق منزلها وأصيبت بشظية هي ووالدها. وقالت لـ"العربي الجديد"، إنهم منذ بداية الحرب في الخرطوم تخوفوا من تحولها للجنينة، مؤكدة أن سياق الصراع ليس قبلياً هنا، كما يُقال.
وأضافت: اندلعت الاشتباكات بين الجيش و"الدعم السريع" وتطور الصراع ودخلت مليشيات متحالفة مع "الدعم السريع"، وشنّت هجوماً كبيراً على الأحياء الجنوبية، وهي المنطقة التي تضم المؤسسات الحكومية والمنظمات الإنسانية ومراكز إيواء النازحين، وتم تدمير مستشفى الجنينة ونهبه بالكامل كما المستوصفات. وتابعت أنه تمّ الهجوم على الصيدليات ومخازن الدواء والإغاثة، ثم هاجموا المواطنين، واقتحموا حي التضامن الذي أسكن فيه وقتلوا نحو 135 شخصاً، وحرقوا البيوت في الحي.
وأوضحت النور أنه يوم 25 إبريل قتلوا مواطني الحي فيما هرب الباقون، ثم انتقلوا إلى أحياء الزهور والثورة والامتداد وحيّ المجلس، وكذلك تم تدمير وسرقة المصارف، وأصبحت الهجمات يومية، وفرّ المواطنون نحو الأحياء الشمالية التي تعتبر أكثر أماناً، ولم تكن هناك إمكانية لإسعاف الجرحى وساء الوضع الإنساني بشكل لا يصدق.
واعتبرت أن "ما حدث إبادة جماعية، لأن المدينة تضم مختلف القبائل لهذا ما يحدث إبادة وطرد للسكّان من أراضيهم، وهناك خطاب كراهية أصلاً نواجهه باستمرار"، مضيفة أن "كل يوم هناك سلب وقتل في الشوارع بوجود القوات النظامية جميعها وهروب حكومة الولاية والوالي، وصار عدد القتلى في ازدياد".
النور: أصبحت الهجمات يومية، وفرّ المواطنون نحو الأحياء الشمالية التي تعتبر أكثر أماناً
وكشفت النور أنها تعرضت لمضايقات وتم حصار منزلها من "الدعم السريع" قبل الاشتباكات، ثم رفض والدها بقاءها في المنزل. وتابعت: اتصل بي شخص وهدّدني إذا أصدرت منظمتنا النسوية أي بيانات أو كتبت أنا تقارير صحافية عما يحدث، فاضطررنا للمغادرة إلى الأحياء الشمالية. وأضاف أنه "يوم الهجوم قُتل 9 من أفراد أسرتي بمن فيهم شقيقي، قتلوا أبناء عمومتي وأزواج إخواتي وخالاتي، وبعدها بيوم قتلوا ثلاثة آخرين من الأسرة فبات العدد 12".
وأشارت النور إلى أنها علمت بوقوع حالات اغتصاب بحكم عملها وعلى الرغم من معاناتها تواصلت مع الضحايا، فجاءها اتصال في ذات اليوم وحذرها من معاداتهم. وأضافت: "قال لي مثلما قتلنا أهلك نعلم أين أنت الآن وبقية أسرتك، وصرت أتلقى تهديدات متواصلة باغتصابي أنا وأخواتي".
وضع إنساني كارثي
من جهته، قال مدير إحدى المنظمات الإنسانية في المدينة، لـ"العربي الجديد"، إن الوضع كارثي بكل معنى الكلمة، وإنه تم تدمير النظام الصحي بالكامل، وتدمير المستشفى وسرقة الأجهزة الطبية. وأضاف المسؤول الذي فضّل عدم ذكر اسمه لحمايته وطاقمه، أن السوق دُمّر بشكل كامل وكذلك الصيدليات، ودخل الأهالي الآن في مشكلة الأمن الغذائي، لأن كل البضائع إما نُهبت أو حُرقت والمدينة محاصرة ولا يمكن دخول بضائع جديدة.
مدير إحدى المنظمات الإنسانية: الوضع كارثي بكل معنى الكلمة، وتم تدمير النظام الصحي بالكامل
وأفاد المسؤول الإنساني بأن أغلب مراكز إيواء النازحين تمّ حرقها وهي حوالي 108 مراكز، تم تدمير 70 منها، والباقي عبارة عن منازل صغيرة، ولكن كل المراكز التي تؤوي الآلاف احترقت، وأصبح الناس يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ولا مأوى حيث الجميع في الساحات والمساجد وبعض المنازل.
وأضاف: "هناك تهديد مستمر حيث يأتي المسلحون ويطالبون الناس بإخلاء الساحات ومغادرة المدينة"، موضحاً أنهم تمكنوا عقب الهجمات الأولى من جمع بعض الجثث من الشوارع، ولكنهم فشلوا في الوصول إلى بقية الجثث بعد الهجوم الثاني. وتابع: "نسّقنا مع المسلحين في المرة الأولى وجمعنا بعض الجثث، ولكن الآن نحاول التنسيق ثانية للوصول إلى الجثث الجديدة".
وأكد المسؤول الإنساني أن مكتبهم تم تدميره، لكنهم بدأوا بما لديهم من إمكانيات شحيحة في نصب مراكز إسعاف للجرحى وعيادات جوالة، مبيناً أن بعض المنظمات التي لديها أشياء بسيطة تقوم بالمساعدة لأنها تعرضت أيضاً للسرقة، كما تعمل منظمتهم مع اليونيسف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) لنقل المياه بالشاحنات. وختم بقوله: "حتى لو أرادت جهة ما تقديم شيء فسيكون صعباً لتعذر الوصول إلى المدينة حتى من أقرب المناطق لها".