الوحدة الوطنية والجغرافيا، الهوية واللغة والدين، الحرية والعيش المشترك، ثمة قضايا لا يفترض أن تكون محل نقاش وجدل في الجزائر، وهي ليست مطروحة كوجهة نظر أو في إطار الرأي والرأي الآخر، كما أنه من الخطورة بمكان، وضعها قيد استغلال سياسي منفلت، أو توظيف دعائي غير محسوب العواقب.
لم يسبق في التاريخ السياسي للجزائر، أن دخل مصطلح "الانفصال" معجم البيانات الرسمية لمؤسسات الدولة. للمرة الأولى تستخدم الرئاسة الجزائرية هذا المصطلح في توصيف تنظيم مخملي طوّر فكرة الحكم الذاتي والفيدرالية على طريقة أكراد العراق، إلى مطلب الانفصال المناطقي. وللمرة الأولى أيضاً يسرد بيان جهة عسكرية مصطلح "حركة انفصالية" في السياق ذاته.
ما من شكّ في أنّ هذا التطور في التوصيف الرسمي هو في النهاية إقرار بوجود معضلة سياسية قد تتطور في ظروف مغايرة إلى أوضاع ومعضلات أخرى، على الرغم من أنّ هذه الحركة (ماك) التي تطالب بانفصال منطقة القبائل، تعيش على وهم استعماري كبير، ويسكنها هاجس بغيض لتمزيق الجغرافيا. وهي ضعيفة ومعزولة وتعيش في إطار ضيّق، تسترزق من سياق عالمي، بعدما بات المهندس الدولي منتبها بحرص ويبالغ في الاهتمام بقضايا المجموعات والأقليات لتوظيفها في هندسة الخرائط الجديدة. لكن طروحات كهذه تعتاش بالأساس على الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة الوطنية.
في الأثناء، ثمّة حقيقة لا يمكن إنكارها، أنه طالما أنّ المسألة الديمقراطية في الجزائر ما زالت مطروحة للنقاش، والتضييق على الحريات قائماً، وطالما أنّ الدولة لم تنجز المشروع الديمقراطي الذي يوفّر للجزائريين إطار الدولة القوية العادلة، والمؤسسات المنبثقة من السيادة والإرادة الشعبية الحقة، بما يضمن للجزائريين حقوقهم وحرياتهم السياسية والمدنية ويحرر العدالة لتكون مستقلة والصحافة لتكون حرة، ويكرس حرية الفكر والضمير وتكافؤ الفرص واحترام الإنسان والحد من تغوّل الأجهزة، فإنّ أشكالاً مختلفة من الحركات التي تشتغل ضمن الرؤى التمزيقية ستجد ما يوفر لها ما أمكن من مبررات الوجود.
وهذه الحقيقة متصلة بحقيقة أخرى لا تغيب، هي أنّ ما فعلته السلطة بالبلد؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في العقود الماضية، بتحويلها الجزائر من بلد نفطي بالغ الثراء والثروات، إلى بلد يلهث مواطنوه وراء كيس حليب أو قنينة زيت، بفعل خياراتها الخاطئة وسياساتها العبثية، وتزييفها للواقع والوقائع وتزوير الانتخابات، وانتهاج القمع والتضييق والفساد ونهب المال العام، هو في حد ذاته فعل يفوق كل فعل لتخريب وتمزيق الدولة والبلد والمجتمع.
كذلك لا ينبغي نسيان أنه وقبل تجار الهوية والجغرافيا، عرفت الجزائر تجار التاريخ الذين احتكروا ماضياً متخماً بالقيم الحيوية المتجددة، وبدلاً من أن يصبح هذا التاريخ ورموزه رابطاً يعزز النسيج السياسي والمجتمعي ويقوّي أركان الدولة الجامعة، تحوّل بفعل الاستغلال السياسي الرديء إلى محراث لزرع الصراعات. كذلك عرفت الجزائر تجار الدين الذين حولوا القيم السمحة للإسلام إلى فتاوى للتكفير والدم والقتل. كما عرفت تجار الأيديولوجيا الذين فرضوا أيديولوجيات غريبة ولا تنسجم مع المجتمع وتطور الزمن، بما حوله إلى مجتمع ريعي كسول.
من الخطورة بمكان العودة إلى اللعب ضد العوامل الجامعة للجزائر والجزائريين، ووضعها قيد تلاعب سياسي ظرفي من أي طرف كان؛ سواء من السلطة أو الجماعات الشاذة المنحرفة، وتوظيفها لتحويل النقاشات الضرورية عن أهدافها، والهروب من المطالب المجتمعية المشروعة. ومن الواجب الحذر من وضع الجغرافيا محل استثمار سياسي بائس، واستخدامها كرمح للحرب ضد الدولة والمجتمع والتاريخ والمستقبل وضد الأرض والحقيقة.