كلما ازدهرت الحريات المدنية والسياسية كان منسوب الأمل والتطلعات المجتمعية أعلى بكثير من الإحباط والقلق، وأمكن تصحيح الخيارات بأقل كلفة، وتعزز التعاضد السياسي لحل المشكلات القائمة.
تجربة الحراك الشعبي في الجزائر أثبتت ذلك بكل وضوح، إذ عاشت خلاله الجزائر واحدة من أزهى فترات التعبير الشعبي عن الطموحات السياسية.
وتوقفت حينه ظواهر سلبية عديدة، كالهجرة غير النظامية للشباب ونزوح الكفاءات إلى الخارج، وانتظمت حلقات النقاش السياسي، حتى وإن انفلت بعضها، وخرجت كل التيارات للتعبير عن نفسها ووجودها، وهذا هو المطلوب لحيوية أي مجتمع سياسي.
تغير الوضع بسرعة، وفي الاتجاه المعاكس تماماً. اختفت في الجزائر فضاءات الحوار السياسي ومساحات النقاش، وتقلصت دائرة المطارحة السياسية، إلى درجة أن مجرد عقد اجتماع لسياسيين وناشطين مدنيين في مقر حزب سياسي، للتداول حول قضايا سياسية، بات أمراً مزعجاً للسلطة، ويستوجب توجيه إنذار للحزب (حدث هذا مع التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية).
لقد حدث إخفاق كبير في استثمار تلك الصورة البهية والجميلة التي رسمها الحراك الشعبي عن الجزائر، كبلد حيوي وشعب بالغ في التعبير السلمي.
وقد نجحت السلطة السياسية في الجزائر في فرض خياراتها وتدبير المسار الانتخابي، بغض النظر عن إن كان ذلك استجابة فعلية لمطالب الحراك الشعبي. واستكملت كل المحطات، عبر تجديد الدستور والمؤسسات النيابية، وخطت منفردة مساراً جديداً لمأسسة الحكم، ما يعني أن الوضع استقر لها بالكيفية التي تريدها، وليست بصدد خوض منافسة أو مواجهة مقاومات سياسية.
على الرغم من هذا فإنها عمدت إلى فرض مبالغ فيه في القيود على حريات التعبير والتنظم والتظاهر. وحملات الاعتقالات تفسر ذلك. وتحت لافتة استعادة هيبة الدولة، باتت الرقابة على تغريدات الناشطين أكثر من مراقبتها للأسواق. وقد وضعت السلطة الجميع في المعترك، وعادت مجدداً إلى وضع التمركز.
تعتقد السلطة أن الهوامش التي أتيحت، على قلتها، للنخب السياسية والمدنية ولوسائل الإعلام، قبل الحراك الشعبي عام 2019، هي التي قادت إلى إطلاق الحراك الشعبي، وهو تقدير سيئ، لأن السلطة تعتبر أن تلافي تكرار المطلبية السياسية يمر عبر سد كل الهوامش، وتشديد القيود على التعبير الحر والتضييق على وسائل الإعلام، لمنع العبور إلى أية نقاشات نقدية تنقض الخطاب الرسمي، لدرجة أن بيان نقابة القضاة لم يقع تداوله في الصحف والقنوات بسبب مضمونه النقدي.
كل بلد لا يتوفر على الفضاءات الضرورية للنقاش السياسي والمبادرة المدنية سائر بالضرورة إلى وضع من الإرباك في الخيارات والتردد في القرارات، (على غرار قضية الضرائب الأخيرة في الجزائر).
وبقدر ما تتحمّل السلطة المسؤولية عن هذا التراجع المقلق، وعن هذه الكآبة السياسية التي تسود عموم البلاد، تتحمل غالبية الأحزاب والنخب السياسية المسؤولية أيضاً، بسبب هشاشتها واستسلامها الفظيع، وانخراطها في سردية السلطة. تبقى نخبة مقاومة، قليلة نعم، تحاول الدفع لاستعادة هوامش الحريات، هي الجذوة والملح.