في التاريخ السياسي للسودان الحديث، عشرات الاتفاقيات والعهود والمواثيق والدساتير التي كتبت ووقعت وتم الاحتفاء بها وتمجيدها، وغالبيتها لم تكن سيئة في نصوصها، لكن غالبها أُجهض بعدم الالتزام بها والنكوص عنها في أقرب منعطف سياسي.
حتى الوثيقة الدستورية لعام 2019 ورغم الجدل الكثيف حولها، والانتقادات المستمرة لها، والانقلاب عليها من قبل العسكر، والتخلي عنها من قبل تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، فإنها لم تكن على درجة من السوء، وبروحها أسست لقيام دولة مدنية ديمقراطية في مرحلة الانتقال وعلى المدى البعيد.
بالأمس، وقّع المكون العسكري وتحالف الحرية والتغيير وعشرات التنظيمات السياسية والمهنية، على اتفاق إطاري، وما من عاقل يعترض على نص من نصوصه، فهي وبلا شك تحقق إلى حد ما بعضاً من أحلام السودانيين في بناء دولتهم على أسس جديدة عمادها الحرية والسلام والعدالة، وتُعيد تلك النصوص طغمة العسكر إلى ثكناتهم وتقلم أظافرهم بأيلولة شركاتهم الاقتصادية إلى وزارة المالية، وتُلزمهم بحماية التحول الديمقراطي في بلاد عانت لأكثر من خمسين عاماً من الحكم العسكري.
وكشأنه وشأن الاتفاقيات السابقة، سيكون الاتفاق الإطاري وما يليه من اتفاق نهائي أمام اختبار الوفاء به والحيلولة دون النكوص عنه من أي طرف وتحويل النصوص إلى أفعال حقيقية تحول قناعة المقتنعين إلى يقين، ومعارضة المعارضين لتأييد أو حياد، وتلك مهمة صعبة تقع على عاتق الأطراف الموقعة على الاتفاق، والشارع المؤيد له، والمجتمع الدولي والإقليمي الذي يقف خلفه، ولا بد من الانتباه أكثر وأكثر لأي ردة من العسكر، خصوصاً أن الشارع الثوري فقد فيهم الثقة تماماً بعد تجارب مريرة في سنوات ما بعد سقوط نظام المعزول عمر البشير.
كثير من المؤيدين لاتفاق الأمس يبدو أنهم غير راغبين في استمرار الحراك الثوري المناهض لانقلاب البرهان، وهذه من الحسابات الخاطئة والسطحية. فلولا الحراك الثوري لما جاء هذا الاتفاق، ولما اقتنع العسكر بالعودة للثكنات، ولا بكل التنازلات التي قدموها، وبإمكان الحراك الثوري المواصلة لتحقيق مزيد من المكاسب لصالح الثورة السودانية ومبادئها، والضغط على العسكر لتقديم مزيد من التنازلات. وعلى الموقعين مواصلة دعمهم للحراك.
وفي المقابل يستوجب على قيادات الحراك الثوري الابتعاد عن خطاب التخوين مهما بلغت درجة الخلاف والتقديرات السياسية، لأن ذلك لن يفيد أي جهة من الجهات والمستفيد وحدهم هم العسكر ويستغلونه للانقضاض على السلطة مرة أخرى.
أخيراً، وعلى عكس ما تبديه بعض دول المحيط الإقليمي من تأييد للتفاهمات الأخيرة بين العسكر والمدنيين، فإن تلك القوى تمثل واحداً من مهددات الاتفاق بحكم التجربة والتاريخ، وذلك لأكثر من دافع أولها الخشية من انتقال عدوى التحول الديمقراطي إليها، وثانيها مصالحها التي من الصعب تمريرها في ظل مؤسسات ديمقراطية، وعليها أن تدرك أن الشعب السوداني قرر المضي في تحقيق ديمقراطيته بالاتفاق الإطاري وبغيره، ولن يتراجع.