وجود الاحتلال في أية منطقة يؤدي إلى نتيجتين حتميتين: الأولى هي ظاهرة إرهاب الدولة المعتدية في المناطق المحتلة، عبر الاستخدام الممنهج للعنف على يد القوات العسكريّة أو الأمنيّة التابعة له، والذي من شأنه الاستمرار لمواجهة النتيجة البديهية الأخرى، المتمثلة في المقاومة، التي يقابلها الاحتلال برفع وتيرة إجرامه وعنفه لقمعها رفقة جميع حركات الاستقلال المطالبة بالتحرير.
طبعًا، لا يقتصر إرهاب الدولة في المناطق المحتلة على القتل والتعذيب، والاعتقال التعسفيّ، بل يمتد إلى الاستيلاء على الأراضي والممتلكات، وتهجير السكان الأصليّين، وتشويه الهوية الثقافيّة للشعب المحتل، بل قد يتجاوز ذلك إلى حرب إبادة جماعيّة وجرائم تطهير عرقيّ ممنهجة، كتلك التي يقترفها الاحتلال الصهيونيّ على أرض فلسطين.
في هذه الحالة، يكون من المعيب أن تختبئ وسائل الإعلام خلف قناع "الحياد"، بهدف المساواة بين الضحية والجلّاد، ونقل الأخبار والتقارير المتعلقة بمقاومة الاحتلال على أنّها مجرّد صراع طبيعي، سياسيّ أو عسكريّ، بين طرفين متكافئين وفقاً للمعيار الأخلاقيّ، ينبغي تغطيته بموضوعيّةٍ دون انحياز إلى أيّ منهما، كما فعلت كثير من وسائل الإعلام الغربيّة، كشبكتي "بي بي سي" و"سي إن إن"، اللتين نقلتا أحداث شهر مايو/أيار الدامية؛ والناجمة عن استمرار الاعتداءات الصهيونية على قطاع غزّة، وكافة الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، على أنها مجرد توتر بين حركة الجهاد الإسلاميّ و"إسرائيل"، أو أزمة "تهدد جهود السلام"!
هذا هو منطق الإعلام الغربي في التعامل مع الأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينيّة، المقاومة بالنسبة له هي "إرهاب"، أو في أحسن الأحوال "أعمال عنف"
كما نقلت شبكة دوتشة فيلة الألمانيّة تقارير فيديو خلال القصف الصهيونيّ على قطاع غزّة، أحدها منشور على موقعها في 12 مايو/أيّار، تتضمن مقدمتها العبارات التالية: "أودت الهجمات الصاروخيّة الفلسطينيّة، والغارات الجويّة الإسرائيليّة، بحياة مقاتلين ومدنيّين من الجانبين.... وقد أدى الهجوم الإسرائيليّ الأخير إلى مقتل قياديّ آخر في حركة الجهاد الإسلاميّ، وإصابة عدد آخر بجروح في قطاع غزّة".
تصوير العدوان الصهيونيّ المستمرّ؛ الساعي إلى اجتثاث المقاومة عبر إرهاب دولة الاحتلال، على أنّه محض صراع عسكري عابر بين سرايا القدس و"إسرائيل"، نجم عنه ضحايا من كلا الجانبين، كان بارزاً في التغطيّة الإعلاميّة لهذه المنصة الإعلاميّة المريضة بعقدة "الهولوكوست"، إذ أوردت في مقدمة تقرير آخر: "أسفرت الهجمات الصاروخيّة من قطاع غزّة عن مقتل شخص في وسط إسرائيل. جاء ذلك بعد غارات جوية إسرائيليّة على أهداف للمسلحين في غزّة، أسفرت عن مقتل قادة في حركة الجهاد الإسلاميّ".
يكمن الخبث هنا في تجاهل كون ما يسمى بـ "إسرائيل" هي في واقع الأمر دولة احتلال، فضلاً عن تجاهل أنّ ما يحدث في قطاع غزّة، وكافة الأراضي الفلسطينيّة، هو جريمة إبادة جماعيّة ممنهجة ومستمرّة، والإصرار على عدم ذكر كلمة "مقاومة" على الإطلاق، والاكتفاء بوصفها بمفردات من قبيل "مجموعة مسلحين"، في سياق يضعها في خانة "الإرهاب" ضد دولة يروج لامتلاكها كل الحق في البقاء على الأراضي التي تحتلها.
صحيفة "نيويورك تايمز" تلاعبت أيضاً بالمفردات، بهدف إضفاء الشرعية على الاحتلال، وتجريد الفصائل الفلسطينيّة من سمة المقاومة، إذ أوردت في مقابلة مع مراسلتها الإسرائيليّة في القدس، إيزابيل كيرشنر، بريطانيّة الأصل، أجراها ديفيد ليونهارت، ونشرت كذلك في 12 مايو/أيّار، تحت عنوان: جولة جديدة من القتال في الشرق الأوسط، جاء فيها: "على مدار الأيام الثلاثة الماضية، تبادلت مجموعة فلسطينيّة، والجيش الإسرائيليّ الهجمات الصاروخيّة عبر الحدود بين إسرائيل وغزّة. إنها أعنف موجة عنف منذ شهور". وقالت كيرشنر في ردها على سؤال زميلها لوصف حركة الجهاد الإسلاميّ: "حركة الجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّة، التي تأسست عام 1981، هي منظمة متشددة، تركيزها الأكبر على الكفاح المسلح ضد إسرائيل، وبدرجة أقل على التعامل مع السكّان الفلسطينيّين. فهي ترفض حق إسرائيل في الوجود، كما تفعل داعمتها الأساسيّة إيران".
أما صحيفة "واشنطن بوست"، فقد ركزت في تقرير نشرته يوم 11 مايو/أيّار على "معاناة الإسرائيلييّن. التقرير الذي نشرته تحت عنوان: "مليشيات غزّة تطلق صواريخ باتجاه تل أبيب بعد ضربات إسرائيليّة مميتة"، جاء فيه: "وقال مسؤولون إنّ النيران اشتعلت في منزل في مدينة سديروت الجنوبية، وأصيبت روضة أطفال في مدينة بئر السبع المجاورة. ويتلقى ما لا يقل عن خمسة أشخاص العلاج في مستشفى في عسقلان من إصابات أصيبوا بها أثناء هروبهم إلى ملجأ، كما تعرضوا إلى مصاعب نفسية. وقال الجيش إنّ أكثر من مليون إسرائيليّ كانوا في ملاجئ".
التقرير مضى في تصوير "معاناة" الجانب الإسرائيليّ على أنّها لا تقلّ عن معاناة أهالي غزّة الذين يواجهون أبشع الجرائم المقترفة بحق الإنسانيّة، إذ ورد فيه أيضاً: "الإسرائيليون وسكّان غزّة على حدٍ سواء؛ الذين اعتادوا بشدة على العنف الذي يتبع نمطاً من الهجوم والهجوم المضاد، باتوا على حافّة الهاوية صباح الأربعاء، بعد ليلة هدوءٍ غير متوقَّعةٍ. قال بعضهم إن احتمال الانتظار كان أصعب من تحمل صفارات الإنذار والانفجارات".
لا يقتصر إرهاب الدولة في المناطق المحتلة على القتل والتعذيب، والاعتقال التعسفيّ، بل يمتد إلى الاستيلاء على الأراضي والممتلكات، وتهجير السكان الأصليّين، وتشويه الهوية الثقافيّة للشعب المحتل
كما أورد التقرير مقابلة مع أحد المستوطنين؛ وزير متقاعد، جاء فيها: "قال دانيال عبر الهاتف يكون الأمر مروعاً في كل مرة تنطلق فيها صفارات الإنذار. عاش الوزير المتقاعد في الجنوب بالقرب من غزّة لمدة 40 عاماً، شهد خلالها عدداً لا يحصى من أعمال العنف، ولم يعد يرى أملاً في السلام". وأضاف المستوطن كذلك: "نسمع كل الانفجارات عندما يعترض نظام القبة الحديديّة الصواريخ، معظمها لحسن الحظ". وتابع التقرير ربما ليضفي بعض الإثارة على تلك المقابلة: "قاطعه نباح صاخب. كان هناك انفجاران صاروخيّان آخران، الكلب ينبح في كل مرة يسمع فيها دوياً".
من جانبها لم تكتفِ "وكالة فرانس 24" بالمساواة بين إرهاب دولة الاحتلال والمقاومة، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ قالت في نقلها لنبأ الهدنة، والذي نشرته يوم 15 مايو/أيّار: "هدنة هشة تحققت في غزّة، حيث سادت حالة هدوء يوم الأحد، ما جعل الفلسطينيّين والإسرائيليّين يحصرون كلفة النيران المتبادلة عبر الحدود، والتي أسفرت عن مقتل أشخاصٍ عديدين". وتابعت: "الضربات الإسرائيليّة على غزّة أدت إلى مقتل ما لا يقلّ عن ستّة من قادة حركة الجهاد الإسلاميّ، التي تعتبر منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ".
هذا هو منطق الإعلام الغربي في التعامل مع الأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينيّة، المقاومة بالنسبة له هي "إرهاب"، أو في أحسن الأحوال "أعمال عنف"، تقوم بها "مجموعات مسلحة"، ضد دولة تمتلك كل الحق في البقاء على الأراضي التي تحتلها، ما يفضي إلى "وقوع ضحايا من كلا الجانبين". متجاهلاً حق الشعب الفلسطينيّ بالمقاومة المستمرّة ضد الاحتلال وإرهابه حتى نيل الحرية، وفوق هذا يدّعي أنّ تحيّزه المتذاكي "حياد"، وتلاعبه بالحقائق والمفردات "موضوعيّة"!