ليست الاقتحامات الإسرائيلية التي صارت وتيرتها شبه يومية للمسجد الأقصى في القدس المحتلة، وكان آخرها أمس الأحد، مجرد تصرفات فردية لمجموعات يهودية متطرفة، بل نهج رسمي برعاية حكومة الاحتلال التي تسرّع في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد تسلم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الحكم وإعلانه "صفقة القرن" (المشروع الأميركي لتصفية القضية الفلسطينية)، لتغيير الوضع القائم في الأقصى، في ظل صمت دولي إزاء ما يحصل من انتهاكات.
ويقوم الاحتلال بتغيير الواقع في الأقصى بشكل تدريجي وبهدف عدم لفت الأنظار إلى التحولات التي طرأت على الحرية التي بات اليهود يتمتعون بها هناك تحت حماية الشرطة الإسرائيلية. كل ذلك يثير مخاوف من محاولة الاحتلال فرض واقع مشابه لما حصل في المسجد الإبراهيمي في الخليل، والذي فرض الاحتلال سيطرته عليه منذ عام 1994، وقسمه بواقع 63 في المائة لليهود، و37 في المائة للمسلمين، عقب مذبحة ارتكبها مستوطن أسفرت عن استشهاد 29 مصلياً.
اقتحم نحو 1600 مستوطن الأقصى بحماية قوات الاحتلال أمس
واقتحم نحو 1600 مستوطن، أمس الأحد، المسجد الأقصى، بحماية قوات الاحتلال الخاصة التي اعتدت على المصلين في المسجد، وأطلقت الرصاص المطاطي وقنابل الغاز، مع حصار القدس القديمة، ما أوقع إصابات بالاختناق بالغاز المسيل للدموع، مع اعتقال بعض الموجودين. وجاء اقتحام قوات الاحتلال لباحات الأقصى تزامناً مع دعوات لذلك من قبل مئات المستوطنين، في ذكرى ما يسمى "خراب الهيكل". وترافق الاقتحام مع توجيه رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت باستمرار تأمين المستوطنين خلال اقتحامهم المسجد. وقال بيان لمكتب بينت، نشره على "تويتر"، إن رئيس الوزراء أجرى "تقييماً للموقف" بمشاركة وزير الأمن الداخلي عومر بارليف وقائد الشرطة يعكوف شفتاي فيما يتعلق بالأحداث في الحرم القدسي. ووجّه بينت باستمرار اقتحامات المستوطنين للأقصى بشكل "منظم وآمن مع الحفاظ على النظام في المكان".
وتحدثت تقارير صحافية إسرائيلية أمس عن أن الاقتحامات التي قام بها المستوطنون للأقصى وشارك فيها اثنان من أعضاء الكنيست في حزب "يمينا" الذي يرأسه بينت سجّلت اختراقاً جديداً، إذ سمح لأول مرة لمجموعات يهودية كاملة النصاب (بحسب الشريعة اليهودية يجب أن يشارك عشرة مصلين على الأقل في الصلاة) أن تؤدي صلوات تامة تقريباً في باحات الأقصى بالقرب من باب الرحمة، من دون أن تقوم الشرطة الإسرائيلية بمنعهم.
ونقلت "يسرائيل هيوم" عن النائبة السابقة شولا معلم أنها لا تذكر أن مثل هذا الأمر حدث منذ 11 عاماً. ووفقاً لمعلم، فإن ما حدث أمس يؤشر لتغيير تاريخي مؤثر هو استمرار لما يحدث في السنوات الأخيرة، لكن الطريق لا يزال طويلاً حتى يتمكن اليهود من "ممارسة كامل حقوقهم". وتشكل هذه الاعترافات من وسائل الإعلام الإسرائيلية ومن معلم مؤشراً على نوايا التصعيد لدى حكومة الاحتلال لجهة العودة لمحاولة فرض التقسيم الزماني والمكاني في الأقصى على غرار ما حدث في الحرم الإبراهيمي في الخليل.
وجّه نفتالي بينت بتأمين المستوطنين خلال اقتحامهم المسجد
وعما حصل أمس، قالت مصادر فلسطينية لـ"العربي الجديد" إن اقتحامات الأقصى وعلى نطاق واسع تعكس واحداً من التوجهات الأخيرة التي فرضها الاحتلال في السنوات القليلة الماضية داخل المسجد وتحديداً بعد تولي ترامب منصبه وما تضمنته "صفقة القرن" من إطلاق يد إسرائيل في تغيير الوضع القائم في المسجد وإضعاف نفوذ الأردن في السيطرة على المكان وإدارة شؤونه من خلال إجراءات حاولت من خلالها إدخال أطراف عربية أخرى، مثل السعودية والإمارات، على خط التنافس على إدارة شؤون المسجد واستبدال الدور الأردني بدور سعودي-إماراتي.
ولفتت هذه المصادر إلى بعض التغييرات التي باتت أمراً واقعاً في المسجد الأقصى، أولها تكليف شرطة الاحتلال بتأمين الحماية الكاملة للصلوات العلنية والطقوس التي يقوم بها المستوطنون في ساحات المسجد، بما في ذلك الصلوات التلمودية، بعد أن كانت تمنعهم من ذلك وتعتقل المخالفين، وذلك التزاماً بفتاوى بعض المرجعيات الدينية اليهودية التي كانت تحرّم إقامة مثل هذه الصلوات. لكن "صفقة القرن" التي أعلن عنها ترامب شجعت المرجعيات اليمينية الدينية المتطرفة على نقض هذه المحرمات، مستفيدة من الواقع الذي حاول ترامب أن يؤسس له وأعلن عنه صراحة في حفل توقيع اتفاقي التطبيع مع الإمارات والبحرين من أنه سيسمح للمسلمين بالصلاة في المسجد الأقصى، متجاهلاً الواقع الأصلي الذي تؤكد عليه المرجعيات الدينية الإسلامية بأن المسجد الأقصى حق خالص للمسلمين وحدهم لا ينازعهم فيه منازع.
ثاني التغييرات، وفق المصادر، هو تشجيع عمليات التطبيع التي انخرطت فيها بعض الدول العربية الحكومة الإسرائيلية على إجراء تغييرات جوهرية في سياستها تجاه حق اليهود في الصلاة بالمسجد الأقصى، وما تضمنته "اتفاقات إبراهام" (اتفاقات التطبيع) من دعوات للقيام بصلوات إسلامية ومسيحية ويهودية في المسجد الأقصى باعتباره مكاناً مقدساً لأتباع الديانات الثلاث وليس الإسلام وحده. وأشارت المصادر إلى تغيير ثالث حصل، هو في زيادة عدد الساعات وجولات الاقتحام للمسجد الأقصى في اليوم الواحد. فبعد أن كانت الاقتحامات تقتصر على جولة واحدة تبدأ من الساعة 7:30 صباحاً وتنتهي عند الساعة العاشرة والنصف، تم تمديد الفترة الصباحية لنصف ساعة إضافية، في حين أضيفت جولة اقتحام ثانية تبدأ من بعد صلاة الظهر وتنتهي عند الساعة الثانية. فيما بدأت جماعات الهيكل تطالب أخيراً بتمكينها من اقتحام الأقصى يومي الجمعة والسبت أيضاً بدلاً من اقتصارها على مطلع الأسبوع ابتداء من الأحد وحتى الخميس.
رابع التغييرات، وفق المصادر، تخصيص مسارات إضافية للمسار الوحيد الذي كان يسمح بالسير فيها داخل ساحات الأقصى من باب المغاربة الذي تسيطر سلطات الاحتلال على مفاتيحه منذ عام 1967 إلى منطقة باب الرحمة، ومن هناك إلى باب السلسلة، ويغادر بعدها المقتحمون الساحات، فيما باتت اليوم تمنحهم مسارات جديدة تتركز في المنطقة الشرقية حيث يطالب المستوطنون باقتطاعها لتكون موقعاً لصلواتهم وطقوسهم، خصوصاً عند ساحة مصلى باب الرحمة. أمر واقع آخر يبرز أخيراً، بتكثيف ممارسات الشرطة الإسرائيلية ضد أعمال الترميم التي تتولّاها الطواقم الفنية التابعة لإدارة الأوقاف واعتقال رئيسها أكثر من مرة وكذلك اعتقال موظفي اللجنة الآخرين من مهندسين وغيرهم، ومنعهم من القيام بأي أعمال ترميم من دون الحصول على إذن من شرطة الاحتلال التي صادرت أكثر من مرة مواد خام تابعة للأوقاف.
كذلك، يبرز استهداف كبار الرموز الدينية والوطنية بالاعتقال والإبعاد عن الأقصى أكثر من مرة، بمن فيهم رئيس الهيئة الإسلامية العليا الشيخ عكرمة صبري، ورئيس مجلس الأوقاف الشيخ عبد العظيم سلهب والعشرات من الحراس، إضافة إلى عشرات المرابطين والمرابطات. يضاف إلى ذلك تكثيف وسائل المراقبة الإلكترونية المنصوبة على المباني المطلة على جميع ساحات الأقصى ونصب كاميرات متطورة ومجسات تنصت من دون الحصول على إذن من الأوقاف، ما شكّل عاملاً آخر من عوامل إضعاف سلطة الأردن على المكان وسحب صلاحياتها منه.
وصفت قناة التلفزة الإسرائيلية "12" ما يقوم به اليهود داخل المسجد الأقصى بأنه "ثورة"
وفي السياق نفسه، وصفت قناة التلفزة الإسرائيلية "12" ما يقوم به اليهود داخل المسجد الأقصى بأنه "ثورة"، تتجسد في تحطيم قواعد الوضع القائم التي سادت عشرات السنين، وذلك عبر السماح لليهود بأداء الصلوات التلمودية ومنح الحاخامات الحق في إلقاء المواعظ الدينية في الحرم. وأوضحت القناة أن زيادة حماس اليهود لاقتحام الأقصى والحوارات التي دارت بين نشطاء "جماعات الهيكل"، وشرطة الاحتلال، ساعدت على إحداث التحول الكبير على مكانة اليهود في الحرم، بحيث إن 35 ألف يهودي باتوا يقتحمونه في العام.
وإزاء ما حصل أمس، حذرت الرئاسة الفلسطينية من "التصعيد الإسرائيلي الخطير" باقتحام المستوطنين اليهود باحات الأقصى بحماية قوات الاحتلال. ونقلت وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، عن الرئاسة، اعتبارها ذلك "تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار، واستفزازاً لمشاعر الفلسطينيين". كما طالبت الخارجية الفلسطينية، في بيان، بموقف دولي "حازم" لوقف "عدوان الاحتلال المتواصل" على الأقصى.
عربياً، دانت الخارجية الأردنية استمرار الانتهاكات الإسرائيلية في الأقصى. وقال المتحدث باسم الوزارة ضيف الله الفايز، في بيان، إن التصرفات الإسرائيلية بحق المسجد تمثل انتهاكاً للوضع القائم التاريخي والقانوني وللقانون الدولي ولالتزامات إسرائيل كقوة قائمة بالاحتلال في القدس الشرقية. وأعلن أن الوزارة وجّهت مذكرة احتجاج رسمية طالبت فيها إسرائيل بالكف عن انتهاكاتها واستفزازاتها، واحترام الوضع القائم التاريخي والقانوني. فيما أعرب مكتب الاتحاد الأوروبي في الأراضي الفلسطينية عن قلقه من الأحداث في الأقصى. وقال في بيان "يجب تجنب أعمال التحريض واحترام الوضع القائم". وأضاف "يجب على السلطات الإسرائيلية والقادة الدينيين والمجتمعيين من جميع الأطراف التحرك بشكل عاجل لتهدئة هذا الوضع".