استغلال موصوف من العسكرة والاستبداد إلى التطبيع والخنوع

27 سبتمبر 2020
تظاهرة ضد التطبيع (Getty)
+ الخط -

استغلت الأنظمة العربية فلسطين وقضيتها طوال العقود السبع الماضية أي منذ النكبة الأولى -1948- حتى الآن استغلالاً موصوفاً بدأ الأمر بتبرير الاستبداد والقمع والانقلابات العسكرية ولفت الانتباه عن الفشل المحلي بحجة الانشغال بتحرير فلسطين وصولاً إلى التطبيع – التحالف الإماراتي مع إسرائيل، وأيضاً بذريعة خدمة القضية لكن سلماً لا حرباً، والزعم بإبقاء عربة الحل السياسي على السكة الصحيحة بعد الإزاحة المزعومة لخطة الضمّ الإسرائيلية عن جدول الأعمال، بينما بدا لافتاً أن حاكم السعودية الفعلي محمد بن سلمان في طريقه للانضمام لمسيرة التطبيع من أجل تكريس حكمه الاستبدادي الأحادي، وعدم معاقبته على تورطه الأكيد في جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي البشعة في القنصلية السعودية بأسطنبول قبل عامين تقريباً.

منذ نكبة فلسطين الأولى توالت الانقلابات العسكرية في البلاد العربية بحجة إزالة أثارها، خاصة في الحواضر الكبرى الثلاث القاهرة ودمشق وبغداد. الانقلابات أسست لأنظمة قمعية استبدادية فاشلة عجزت عن بناء دول بالمعنى الحقيقي والجاد للكلمة، ناهيك عن تحرير فلسطين نفسها. 

خلال عقود تم قمع وإسكات المعارضين، ومنع أي نقاش ديمقراطي جدّي بحجة الانشغال بمعركة تحرير فلسطين وفق قاعدة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

منذ نكبة فلسطين الأولى توالت الانقلابات العسكرية في البلاد العربية بحجة إزالة أثارها

بعد ذلك تسببت تلك الأنظمة بنكبة ثانية في حزيران/ يونيو 1967، حيث هزمت إسرائيل ثلاثة جيوش عربية في ستة أيام، بل في ست ساعات. وبدلاً من التنحي عن السلطة التي وصلوا إليها أصلاً بحجة إزالة أثار النكبة الأولى تم التشبث بها أكثر، والدفع بالعملة الفلسطينية عبر القبول بقرار 242 الذي مهد للصلح اولاعتراف والتفاوض وقزم فلسطين التاريخية إلى الضفة الغربية وغزة، أي 22 في المائة منها، وببساطة بدلاً من أن يتغير الفاشلون غيروا القضية الفلسطينية والعربية نفسها.
من هنا تم التحول إلى عملية التسوية أو عملية السلام - المصطلح اللئيم لوزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر – وأيضاً تم تبرير الفشل والعجز الداخلي والهرولة باتجاه السلام الاستراتيجي مع إسرائيل بذريعة حل القضية الفلسطينية لا حل مشاكل وأزمات الأنظمة نفسها.

ببساطة تم الانتقال في سيرورة استغلال فلسطين من الخيار العسكري إلى الخيار السلمي، حتى أن أنور السادات نفسه حاول التغطية على سلامه المزعوم بادعاء العمل على حل القضية عبر وضع بند فلسطيني في معاهدة كامب ديفيد تحدث عن حكم ذاتي ومفاوضات خاصة بالحل النهائي للوضع في فلسطين.

ببساطة تم الانتقال في سيرورة استغلال فلسطين من الخيار العسكري إلى الخيار السلمي

التطبيع  الإماراتي البحريني الأخير يبدو مختلفاً نسبياً، حيث لم تشارك الإمارات ولا البحرين في أي حرب أو صراع مباشر مع إسرائيل، ورغم ذلك نرى هنا أيضاً استغلالاً للقضية الفلسطينية لتبرير التطبيع - التحالف الصارخ والفظ.
قيل في تبرير التطبيع إنه تم بثمن إزاحة خطة الضمّ الإسرائيلية غير الشرعية لثلث الضفة الغربية المحتلة عن جدول الأعمال وهذا غير صحيح، كون الخطة علقت فقط رغم أنها كانت ميتة سريرياً تقريباً لأسباب عدة فلسطينية إسرائيلية وأميركية، واتضح أنه أي التطبيع تم أساساً بغرض الحصول على أسلحة أميركية متطورة، ناهيك عن تحالف أبوظبي مع تل أبيب لتحقيق الأجندة الإماراتية الإقليمية الدموية المسعورة والموتورة المتضمنة معاداة تركيا والحركات والأحزاب الثورية وتحديداً الإسلامية منها، على طريق إعادة إنتاج أنظمة الاستبداد التي أسقطتها الثورات العربية الأصيلة.

إذاً، فلسطين هنا كانت مجرد حجة مع ملاحظة الانهيار أو البؤس، حيث لا حديث عن حلّ عادل لقضيتها وفق الشرعية الدولية بعد دفن المبادرة العربية على علاّتها، والحقيقة أن ما نحن بصدده يتمثل بإزاحة القضية الفلسطينية نفسها، لا خطة الضمّ عن جدول الأعمال، والقبول بالأمر الواقع الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة حيث الاحتلال والتهويد والاستيطان والحصار.

تطبيع بن سلمان التدريجي مع إسرائيل يبدو أيضاً مختلفاً نسبياً أقله في الشكل، رغم أن الجوهر واحد، ويتمثل بتحقيق مصلحة فئوية ضيقة عبر إحكام قبضته الاستبدادية، وتسهيل صعوده إلى السلطة وتوليه الحكم بشكل رسمي، وتبرئته أو عدم عقابه على جريمة قتل جمال خاشقجي البشعة التي ارتكبها بكامل إرادته، وعن سبق إصرار وترصد. والتطبيع السعودي الكامل سيكون حتماً بذريعة فلسطينية وادعاء الحصول على ثمن ما ولو وهميا كما كان الحال في الحالة الإماراتية.
أخلاقياً وسياسياً، لا يوضع الجميع في سلة واحدة طبعاً أنظمة الفلول القدامى كانت جادة نسبياً عندما قاتلت، ولكن بشكل سيئ، وحتى عندما ذهبت إلى التفاوض تمسكت بالحد الأدنى المتمثل بقرارات الأمم المتحدة تحديداً 242 و338 التي تنص على الانسحاب من الأراضي المحتلة، وإقامة دولة فلسطينية وربط التطبيع مع  إسرائيل بحلّ نهائي يرتضيه الفلسطينيون كما قالت المبادرة العربية حرفياً.

أنظمة الفلول الجدد والثورات المضادة تعي تماماً أن تطبيعها يمثل تهميشاً وتجاوزاً للقضية الفلسطينية

أما أنظمة الفلول الجدد والثورات المضادة فتعي تماماً أن تطبيعها يمثل تهميشاً وتجاوزاً للقضية الفلسطينية ويساعد إسرائيل في مخططاتها الهادفة لتصفية القضية، وفي الحد الأدنى تأييد الواقع الراهن الذي يخدم مصالحها الاستعمارية.
إلى ذلك لا يجب تجاهل حقيقة أن الشعوب العربية في الحواضر التاريخية الكبرى قدمت دمها وعرقها وخبزها وحريتها وكرامتها دفاعاً عن فلسطين، ثم رفضت التطبيع مع إسرائيل بأي حال من الأحوال، كما قدمت الشعوب في الدول الخليجية ما باستطاعتها لمساعدة فلسطين مادياً ومعنوياً وإعلامياً وسياسياً وموقفها من التطبيع حازم وحاسم أيضاً، حتى في دولة الإمارات الأكثر حماساً واندفاعاً نحو التحالف مع إسرائيل. 

في الأخير لفهم أوسع للمشهد كله تمكن الإشارة إلى ما جرى في مؤتمر هرتسليا نهاية العام 2002 أي قبل غزو العراق مطلع العام التالي 2003، حيث تبارى القادة الإسرائيليون في التأكيد على أن إخراج العراق من دائرة الصراع سيوجه ضربة قاصمة للانتفاضة الثانية والقضية الفلسطينية نفسها بشكل عام، وسيجبر الفلسطينيين على الاستسلام للمشيئة الإسرائيلية وحده أفي ديختر الذي كان قائداً لجهاز الأمن العام الشاباك آنذاك دحض روايات السياسيين قائلاً: إن الفلسطينيين قد يتأثرون نسبياً لكنهم سيمضون قدماً في معركتهم كونهم يعتبرون أنفسهم أصحاب قضية عادلة ومركزية  في المنطقة، فلا يمكن تجاوزها أو تجاوزهم بأي حال من الأحوال.
 

دلالات