حصل "العربي الجديد" على مسودة القانون الذي وقعه أكثر من 100 نائب في البرلمان الجزائري، وتضمنت المسودة 54 مادة، تطرقت إلى مجموع الجوانب السياسية والقانونية والمسؤولية التاريخية للدولة الفرنسية عن جرائم الإبادة والتهجير والتجهيل ونهب الثروات الجزائرية، ويضع القانون شرطاً اعتراف فرنسا واعتذارها وإقرارها بتقديم تعويضات، كشرط رئيس لعقد أية اتفاقيات أو معاهدات مستقبلية مع الدولة الجزائرية.
ويهدف القانون إلى إدانة الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي ارتكبها، واسترجاع الحقوق المسلوبة المعنوية والمادية على حد سواء، جراء العدوان المسلح على الشعب الجزائري منذ 14 يونيو/حزيران 1830 حتى الاستقلال، ويشدد القانون على المعاقبة بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وغرامات مالية لكل من يقوم بتمجيد الاستعمار الفرنسي في الجزائر بأية وسيلة من وسائل التعبير.
ويحمّل القانون "الدولة الفرنسية المسؤولية كاملة عن الجرائم التي ارتكبتها الجيوش الفرنسية وعملائها طيلة فترة الاستعمار بصفتها جرائم ضد الإنسانية، كالتفجيرات النووية والإبادة الجماعية وحقول الألغام وجريمة الألقاب المسيئة وسرقة الممتلكات والتراث الوطني"، ويشدد على أن جرائم الاستعمار الفرنسي لا تخضع لمبدأ التقادم ولا لقوانين العفو، وفقاً لمقتضيات القانون الدولي الإنساني، وتنص المادة السادسة من القانون على المطالبة بالتعويضات عن الأضرار المادية والمعنية الناجمة عن الجرائم الاستعمارية.
كما ينص القانون على أن يتم "تأسيس شرط الاعتراف والاعتذار، كقاعدتين في التعامل في العلاقات الجزائرية الفرنسية، ويعتبر الاعتراف والاعتذار والتعويض حقوقاً مشروعة للشعب الجزائري وغير قابلة للتنازل"، كما "يلزم الدولة الجزائرية بعدم التوقيع على أية اتفاقية أو معاهدة مع الدولة الفرنسية حتى استيفاء كل الشروط الواردة في القانون"، ويؤكد القانون مسؤولية سعي الدولة الجزائرية لإلزام الدولة الفرنسية بالاعتراف بماضيها الاستعماري في الجزائر، إضافة إلى إلزامها بالاعتذار وتقديم تعويضات عن الجرائم والمآسي في حق الشعب الجزائري، كما "يلزم الدولة الجزائرية، كشرط للتوقيع على أية معاهدة أو اتفاقية مع فرنسا؛ بإلغاء كل النصوص الفرنسية التي تمجد وتؤيد سلوك الهمجية الاستعمارية"، في إشارة إلى قانون فبراير/شباط 2005، الذي أصدره البرلمان الفرنسي والذي يمجد الاستعمار ويعتبره نشراً للحضارة.
وتنص مسودة قانون تجريم الاستعمار على استحداث محكمة جنائية تختص بمحاكمة كل شخص ارتكب أو ساهم في ارتكاب جريمة من الجرائم الاستعمارية السالفة الذكر، ويحاكم أمامها كل شخص ارتكب ذلك مهما كانت جنسيته أو صفته، كما يحق لكل ضحية أو لذوي الحقوق رفع دعوى أمام هذه المحكمة الجنائية، ويلزم السلطات الفرنسية بتسليم المطلوبين المتهمين أو المدانين بارتكاب جرائم الاستعمار الفرنسي التي يصنفها القانون إلى خمسة أصناف، هي جرائم حرب تشمل التقتيل والإعدامات واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وسياسات الأرض المحروقة، وجرائم العدوان بالتخطيط لاحتلال الأراضي، وجرائم الإبادة الجماعية التي تشمل إهلاك قرى وقبائل بأكملها وإخضاع الجزائريين لأحوال معيشية بقصد إهلاكهم، وجرائم ضد الإنسانية تشمل التشريد والنفي والتجنيد القسري والتفجيرات النووية، وجرائم ضد الهوية الوطنية تشمل قتل العلماء وهدم المساجد وإغلاق الكتاتيب وبث التخلف والحرب الدينية.
ويمنع القانون منح أية حقوق لمعمري الأقدام السوداء (الفرنسيين المولودين في الجزائر)، وينص على أنه "لا تحق لهم المطالبة بأية تعويضات عن الأملاك الشاغرة التي تركوها غداة الاستقلال، أو المطالبة بأراضي أو عقارات استغلوها ونهبوها من السكان الأصليين بغير وجه حق"، كما يلزم الدولة الجزائرية باسترجاع الثروات والأموال المنهوبة والمهربة من قبلهم.
ويشدد القانون على إلزام الدولة الجزائرية فرنسا بإعادة الممتلكات المنهوبة والمهربة خلال الاستعمار، والعمل عبر قنواتها الرسمية والدبلوماسية على إجبار فرنسا على تقديم تعويضات عادلة ومنصفة لجميع ضحايا التجارب النووية التي نفذتها في الصحراء الجزائرية، وتولي مسؤولية تطهير تلك الأراضي من الإشعاعات النووية وإصلاح البيئة، وتسديد ديونها للجزائر لفترة ما قبل الاحتلال، حيث كانت الجزائر قد باعت كميات من القمح لفرنسا، لكنها لم تستلم حقوقها، ما تسبب في خلافات كانت الدافع بالنسبة لفرنسا لإطلاق حملة لاحتلال الجزائر.
وتطرق القانون إلى ملف الألقاب وجريمة خلط الأنساب، التي قامت بها فرنسا لتفكيك النسيج الاجتماعي في الجزائر، حيث فرضت ألقاباً غير مناسبة ومسيئة على الجزائريين، كما انتزعت عائلات بأكملها تم تهجيرها إلى كاليدونيا الجديدة، وتنص المادة 46 من المسودة على ضرورة إنشاء مؤسسة للبحث في الأنساب وإعادة رسم شجرة الأسر لإحياء سجايا الشعب الجزائري، ومحو أثار الطمس والتشويه التي مارسها الاستعمار الفرنسي، وشددت مادة أخرى على ضرورة أن تعترف الدولة الجزائرية لأبناء المبعدين وأحفادهم والمهجرين والمنفيين في كل الأقطار، لا سيما المنفيين في كاليدونيا الجديدة وغوايانا الفرنسية، بالحق في الجنسية الجزائرية، وتسهيل حصولهم عليها ودخولهم إلى الجزائر، على أن تتحمل الدولة مسؤولية تلقينهم تعاليم الدين الإسلامي واللغة العربية.
امتحان للسلطة.. أكثر من 100 نائب وقعوا على المسودة
في السياق ذاته، وقع أكثر من 100 نائب في البرلمان الجزائري على مسودة القانون، تمهيداً لعرضه على مكتب البرلمان وتحديد موعد جلسة نيابية عامة يتم خلالها إصداره رسمياً، بعد إخفاق تجارب سابقة للمشروع نفسه بسبب تعطيل السلطة السياسية له سابقاً.
وقال مندوب أصحاب مسودة القانون النائب زكريا بلخير، عن كتلة حركة مجتمع السلم، لـ"العربي الجديد"، إن أكثر من 100 نائب ينتمون إلى كل الكتل النيابية وقعوا على المسودة، التي تم إيداعها أمس الأحد لدى رئاسة البرلمان، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تمثل استجابة لمطالب الشعب والحراك الشعبي للقصاص من المستعمر الفرنسي وحماية تاريخ الجزائر، مؤكداً: "نحن اليوم نعيش جزائر ما بعد الحراك، ونحسب أنفسنا كشباب في البرلمان امتداداً للحراك الشعبي الأصيل الذي كان مطلبه الأوحد والوحيد والموحد هو إنهاء الوصاية الفرنسية، ولهذا لا أرى أنه يوجد وقت أفضل من هذا الوقت، ونحن حديثي عهد بحراك شعبي لا يزال نبضه يلامس الجزائريين".
وأوضح المتحدث أن "التفاعل كان على العموم إيجابياً، والغالبية من النواب الذين تواصلنا معهم رددوا العبارة ذاتها، من أجل تجريم الاستعمار نوقع على مقترح القانون بعينين مغمضتين، وهذا هو الظن بالجزائري أينما كان، ومهما كان توجهه السياسي، حينما تذكر نقطة الاستعمار".
وأقر النائب زكريا بلخير بوجود تردد ملحوظ لدى بعض الأحزاب السياسية الموالية والملتصقة مواقفها بالسلطة، والتي لا تتخذ قراراتها بشأن القضايا الحساسة من دون وجود إيعاز من السلطات العليا ، كجبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وقال: "بالنسبة للتردد لدى بعض الأحزاب، فهو أمر متوقع ومنطقي لأسباب عديدة لا يمكن حصرها في جانب واحد، بين من اعتاد على السير بالإيعاز وبين متوجس ومتريث ومترقب، لكن كل ما يهم أن النواب شاركوا من جميع الأطياف السياسية المشكلة للبرلمان في عهدته النيابية التاسعة".
وجاءت هذه الخطوة عشية احتفال الجزائر بذكرى عيد الثورة، (نوفمبر/تشرين الثاني 1954)، وفي ظل تصاعد الأزمة السياسية بين الجزائر وباريس على خلفية تصريحات مثيرة للجدل أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بحق تاريخ الأمة الجزائرية، اتخذت الجزائر على أثرها قراراً باستدعاء السفير الجزائري من باريس منذ الثاني من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، إضافة إلى سلسلة اتهامات جزائرية لباريس بإطلاق حملة إعلامية ضد الجزائر وبدعم حركة انفصالية (ماك) مقرها في باريس.
ورداً على سؤال حول إمكانية تفاعل السلطة السياسية مع مقترح القانون، علّق مندوب الكتلة التي اقترحته بأن النواب استخدموا الوسيلة القانونية التي تدخل ضمن صلاحياتهم، ولمصلحة الوطن وتحقيقاً لمنجز يطالب به قطاع واسع من الشعب الجزائري، على أن تتحمل السلطة مسؤوليتها في دعم تحقيقه، وقال: "السلطة تقف هذه المرة على المحك، واليوم سيعرف الجزائريون، من خلال التجاوب مع ملف تجريم المستعمر، إلى أي مدى تغيرت الذهنية السلطوية في الجزائر في مرحلة ما بعد الحراك الشعبي، وإلى أي مدى صارت المؤسسة التشريعية تحظى بكامل سيادتها، ونحن متفائلون هذه المرة بالطبع".
وتفرض الترتيبات القانونية في البرلمان عرض مسودة القانون على مكتب البرلمان، الذي يتخذ القرار بشأن إحالة المشروع إلى الحكومة لإبداء رأيها فيه قبل عرضه للنقاش في جلسة عامة، كما يمكن أن يتخذ المكتب قراراً مخالفاً للمسارات القانونية المفترضة، بحفظه وتعطيل عرضه للنقاش العام، في حال أوعزت السلطة السياسية لرئاسة البرلمان بذلك.