2023 ... مخاطر الحرب مستمرّة

27 ديسمبر 2022
+ الخط -

اعتدنا التفاؤل مع بداية كل عام جديد، لكن الأمر يبدو بشأن العام المقبل بعد أيام مختلفا. يتوقعه الجميع أن يكون امتدادا للعام المنتهي، وربما تتوسّع فيه جبهات الصراع، وتظهر على السطح النوايا الخفية. اعتادت الصحافة مع نهاية كل عام تقديم حصاده ورصد أهم الأحداث فيه على جميع المستويات والأصعدة: سياسيا وفنيا وثقافيا ورياضيا ... إلخ. وعلى الرغم من كثرة الأحداث العالمية وأهمية بعضها، فرضت الحرب الأوكرانية نفسها، وكانت الحدث الأعظم تأثيرا بلا منازع. لو أردنا أن نلخص عام 2022، لقلنا إنه العام الذي تغيّر فيه العالم، مثلما كان الأمر مع يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
....
وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، من رموز الدبلوماسية الأميركية، فهو صانع سياسات وصاحب مبادرات فى مجال إنهاء الصراعات والأزمات، واسع الخبرة والمعرفة. تحدّث بعد بداية الحرب في أوكرانيا في منتدى دافوس، في مايو/ أيار الماضي، عن ضرورة احتواء الحرب، وحذّر من إطالة أمدها، وأعرب عن أمله في أن تكون المفاوضات بديلا عن العمليات العسكرية. ونصح أوكرانيا بتقديم تنازلات لروسيا فيما يخص شبه جزيرة القرم، وأن تعلن الالتزام بالحياد لطمأنة جارتها الكبرى. وكتب، أخيرا، مقالا طويلا فى مجلة "ذا سبكتاتور" عنوانه "كيف نتجنّب حرباً عالمية أخرى"، تعرّض فيه لتاريخ الصراع فى أوروبا وأسباب الحرب العالمية الأولى التي عدّها نوعا من الانتحار الثقافي الذي دمّر مكانة أوروبا، وقارن الأمر بما يحدث الآن، وحذّر من مخاطر تدمير روسيا، فالأخيرة، من وجهة نظره، ساهمت في التوازن العالمي وتوازن القوى أكثر من خمسمائة عام، ولا ينبغي التقليل من دورها التاريخي، وتفكّك روسيا أو تدمير قدرتها على السياسة الاستراتيجية يمكن أن يحوّل أراضيها الشاسعة إلى فراغ متنازع عليه، وهو أمر يؤدي إلى نتائج سيئة للعالم كله. وفيما كان كيسنجر قد نصح أوكرانيا، في منتدى دافوس، بالحياد وعدم الانضمام لحلف الناتو، إلا أنه في مقاله جاء على عضوية أوكرانيا في "الناتو"، حيث أصبح لدى أوكرانيا واحد من أكبر الجيوش البرّية وأكثرها فاعلية في أوروبا، وهو مجهّزٌ من الولايات المتحدة وحلفائها، وبذلك لا يكون للحياد معنى.

الحرب الخيار الوحيد أمام القوى المتنافسة لإدراك حقيقة قوة الخصم وقدرته فى ساحة القتال

تفرض العمليات العسكرية على الأرض واقعا جديدا على طاولة المفاوضات، وهو أمر معروف، لكن هذا لا يجب أن يؤدّي إلى تراخي الأطراف المنخرطة فى الصراع عن التفاوض، حتى لا تتسع دوائر الحرب، وقد حذّر كيسنجر من مخاطر استخدام روسيا السلاح النووي. وتحدّث عن عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا، وأمله في أن تبدأ قريبا، واقترح، وهو الدبلوماسي المخضرم، أن يكون لها شقان: تأكيد حرية أوكرانيا وتحديد هيكل دولي جديد، خصوصا لأوروبا الوسطى والشرقية. وأن يكون لروسيا مكان في هذا النظام. .. لكن هل ستجد نصائح كيسنجر آذانا صاغية في الولايات المتحدة التي تدير فعليا الحرب في أوروبا عبر الأطلسي؟ وهل ستستجيب أوروبا لنصيحة كيسنجر بعدم تجاهل روسيا ودورها؟
....
الحرب هي الخيار الوحيد أمام القوى المتنافسة لإدراك حقيقة قوة الخصم وقدرته فى ساحة القتال. يظلّ الصراع معلقا ومخفيا، حتى يحين الوقت المناسب. صرّحت المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، لصحيفة "Zeit" إن اتفاقية مينسك لعام 2014 (بين روسيا وأوكرانيا) كانت محاولة لمنح أوكرانيا الوقت الكافي لتستعدّ عسكريا للحرب ضد روسيا، ففي ذلك الوقت لم يكن في استطاعة بلدان حلف الناتو أن تفعل ما تفعله الآن لمساعدة أوكرانيا. وليس لهذا التصريح إلا معنى واحد، أن الغرب كان يجرّ روسيا إلى الحرب على أوكرانيا، لكسر روسيا، وكان ينتظر الوقت المناسب.

أميركا أكثر الدول تورّطًا في الحروب الخارجية مقارنة بعمرها القصير

لا يمكن استبعاد أميركا من الحرب الأوروبية أو أي حربٍ أخرى علي ظهر الكوكب، فهي أكثر الدول تورّطًا في الحروب الخارجية مقارنة بعمرها القصير، وهو ما سبق أن وصفها به رئيسها الأسبق، جيمي كارتر، فمنذ تأسيسها دولة مستقلة عام 1776، لم تتوقف عن خوض الحروب. والحرب الأوكرانية مجرد بروفة نهائية للحرب ضد الصين، وهذه متوقعة وسبق الحديث عنها، لحسم التنافس بين أميركا والصين، وتحديد مكانة كل منهما خلال الخمسين عاما المقبلة.
تتحيّن الولايات المتحدة الوقت والفرصة المناسبة، ويرصد المراقبون مؤشّرات على ذلك الافتراض، أولا الإخلاء العاجل لصناعة أشباه الموصلات من تايوان، ونقلها إلى الولايات المتحدة، وتوقيع الرئيس الأميركي، جو بايدن، على قانون لمنح مساعدات بقيمة 52 مليار دولار لإعادة إنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، لتعزيز موقع أميركا التنافسي أمام الصين، وكذلك النقص في رقائق الحواسيب الآلية، والذي ظهر فجأة قبل عام في جميع أنحاء العالم. ويبدو أن الولايات المتحدة اشترت بشكل عاجل هذه المكوّنات للاحتياطي الاستراتيجي، تحسّبا لأي نقصٍ في الإمدادات يمكن أن يحدُث بسبب مخاطر الحرب المحتملة.
يتمنّى الناس أن يكون العام الجديد فيضا من الأمل، وأن ينعم الجميع بالسلام والأمان، وأن تنتهي الحرب الروسية الأوكرانية، ويتعافى الاقتصاد العالمي من عثراته، ويبدأ دورة جديدة من النمو. وفي المقابل، يطلّ شبح القلق والترقب والخوف من أن يكون قادة العالم يسعون إلى خرابه وليس إعماره، بسبب تنافس محموم على الأسواق والهيمنة.