المعارضة التركية في الميزان
يجد بعضهم أن استمرار حاكم مستبد أثبت نجاحا في تنمية بلده أفضل من اختيار حاكم جديد لم يختبر بعد. يردّد هذا المفهوم المتخوفون من التغيير، الذين يفضلون التعامل مع ما ألفوه بدلا من الدخول في مغامرة غير محسومة النتائج. يجد أمثال هؤلاء دوما في خرافة المستبدّ العادل مثالا. وأعتقد أن هذه الخرافة ذات أصول شرقية، اكتسبت زخما مع الزمن، حتى بات بعضُهم يردّدها من دون خجل رغم ما يعتريها من عوار، فالاستبداد نقيضٌ للعدل، أي مستبدّ سيطبّق العدل من وجهة نظره، والعدل لا يتحقّق بمعيار فردي، ولا يتم إلا بالتجرّد والالتزام بمعايير عامة، الجميع أمامها سواسية.
مفهوم المستبدّ العادل منتشرٌ في الدول التي لم تعتد على الحكم الديمقراطي، والتي لا تجد غضاضة في الخلط بين الحاكم والدولة. وعليه، يُدان معارضو الحاكم على اعتبار أنهم خونة للدولة. في مثل هذه الدول، الانتخابات الرئاسية إجراء شكليّ منزوعة منه صلاحيات التغيير الآمن والتداول السلمي للسلطة. وحتى في الدول التي تجرى فيها انتخابات رئاسية نزيهة، استمرار الحاكم في منصبه مدة طويلة يحوّله إلى مستبدّ. ولذا تحدد أغلب الدساتير الفترة المحددة لولاية الرئيس، وبقاء الرئيس في الحكم فترة أطول يستدعي دوما تغيير الدستور، وأي حاكم يلجأ إلى ذلك مشروعُ مستبدّ.
أردوغان هو الرئيس التركي الوحيد الذي تمكن مقارنته بالزعيم كمال أتاتورك. أحدَث، في الفترة الطويلة التي قضاها رئيس وزراء ثم رئيس دولة، تغييراتٍ جذرية في تركيا: اجتماعيا واقتصاديا، كما صعد بمكانتها على الساحتين، الإقليمية والدولية، كما أنه لم يدخُل أبدا انتخابات وخسرها. وهذا ما صنع أسطورة الرجل الذي لا يُقهر. منذ عام 2003 وأردوغان يحكم تركيا، عقدان كفيلان بتماهي أي حاكم مع منصبه، فهو لا يتخيّل بديلا يخلفه، ويصبح مقتنعا أن من دونه ستكون الفوضى وتراجُع المكتسبات. وقد تحايل أردوغان على الدستور ليسمح ببقائه في الحكم فترة أطول، ونسي أنه مجرّد رئيس، وليس خليفة يظلّ في الحكم حتى يزوره ملك الموت.
كلما روّج مواطنون فكرة عدم وجود بديل للحاكم الحالي، ما يُشعرك بأنهم يهينون بلدهم ويصفونها بالعُقم، فالبدائل دائما موجودة، مهما كان الرئيس الحالي موفّقا وناجحا وصاحب إنجازات. تغييره بعد انتهاء مدّته الدستورية أفيد للبلد من بقائه، يفتح الأفق أمام كل أصحاب الكفاءة والجدارة للتنافس للوصول إلى سدة الحكم، وهو ما يفيد البلاد ويعزّز مكانة الشعوب في اختيار من يمثلها ويحقّق طموحاتها.
المتمنّى أن تفكّر قوى المعارضة في الدول العربية بأسلوب أحزاب المعارضة التركية وتوحيد أهدافها ومواقفها أمام أنظمة الحكم القائمة
لدى المعارضة التركية رؤية مختلفة لإدارة الدولة عن التي ينفذها أردوغان، وتسعى إلى تنفيذ خططها عبر صناديق الانتخاب. إنها تواجه أسطورة أردوغان الذي لا يُقهر. ولذا كان عليها أن تبدأ العمل مبكّرا. وبالفعل، استطاع تحالف حزبي الشعب الجمهوري والجيد أن يفوز في انتخابات بلديتي إسطنبول وأنقرة على مرشّحي حزب الرئيس العدالة والتنمية. وكان لهذا الأمر أثر كبير في كسر هالة أردوغان وقدرة حزبه على الحشد والفوز في أهم مدينتين في البلاد. قرّرت أحزاب المعارضة أن تكرّر التجربة في الانتخابات الرئاسية، فالجميع يدرك أن لا أحد يمكن أن يفوز على أردوغان منفردا. تأسّس تحالف انتخابي يضم ستة أحزاب، ليختاروا مرشّحا رئاسيا واحدا ينافس أردوغان في انتخابات مايو/ أيار المقبل. وقدّم التحالف، مع بداية العام الحالي، برنامجه السياسي للشعب في كتابٍ من 240 صفحة. يشمل جميع المجالات في السياسات الداخلية والخارجية، وفيه اختلافات جوهرية عن سياسة أردوغان، وتراجع عن تنفيذ مشاريع ضخمة بدأها. وقد اتفقت أحزاب المعارضة التركية، أخيرا، على تسمية كمال كلجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري، مرشّحا رئاسيا، وهو لا يتمتع بكاريزما مثل أردوغان، ولكن الأحزاب تعتمد على قدرتها على حشد الشارع التركي، والتركيز على المصاعب المعيشية التي يمرّ بها الأتراك، وحسب استطلاعات رأي أجريت أخيرا، فرص المعارضة جيدة.
وبغض النظر عن نتيجة انتخابات مايو/ أيار المقبل، ربما يختار الأتراك تجديد الثقة في زعيمهم صاحب الإنجازات الكبيرة بمنطق أنه مختبَر، ولا داعي لخوض مغامرة غير محسوبة مع زعيم جديد. أو قد يفضل الأتراك التغيير والخروج من تحت عباءة أردوغان. وفي الحالتين، قرار الأتراك شأن داخلي يُحترم، وموقف المعارضة يستحقّ الإشادة، فقد نبذت الخلافات والطموحات الشخصية لكل زعيم حزب أمام المصلحة العامة، ورضيت بدعم مرشّح واحد اتفقوا عليه. وفي المقابل، وعد كمال كلجدار أوغلو بأن يكون رؤساء الأحزاب نوابا له، كما تعهد أن يكون حكمه توافقيا، يعلي من شأن العدالة والقانون.
المتمنّى أن تفكّر قوى المعارضة في الدول العربية بأسلوب أحزاب المعارضة التركية وتوحيد أهدافها ومواقفها أمام أنظمة الحكم القائمة التي لا توافق على قرارتها وسياستها، حتى يكون لها تأثير ودور في التغيير المأمول، والتداول السلمي للسلطة والحكم الديمقراطي الرشيد.