من أطلق طائر الخوف في سماء العالم؟
(1)
وكأن العالم، عن بكرة أبيه، يجري خوفا من وحش يترصّده ويتوقع أن يفتك به، وراء كل حدث خوف كامن ووراء كل حكاية غضب مكبوت، بسبب الرعب من مستقبل مجهول. ذاعت في الأيام السابقة أخبار متداولة تؤكد كلها أن الخوف هو الدافع وراءها، منها: حرب الغرب على تطبيق "تيك توك" الصيني، وحظر استخدامه على موظفي المفوضية الأوروبية، وفرض الحكومتين، الأميركية والكندية، قيوداً على استخدامه على الأجهزة الرسمية، دليل على الخوف منه، وهو التطبيق واسع الانتشار، لأنه أتى من الشرق، فلم يجر من قبل التعامل مع باقي التطبيقات الأميركية بهذا الحذر والخوف من دول العالم شرقا وغربا، رغم حقيقة اتّجارها بمعلومات المستخدمين وبيعها لمن يدفع الثمن. العيّنات المأخوذة من أحد المواقع النووية الإيرانية، والتي أظهرت وجود جسيمات اليورانيوم عالي التخصيب بنسبة 83.7٪، وهي نسب تقارب المطلوبة لصناعة سلاح نووي، خبر أثار ذعر جيران إيران، وكذلك الدول الأوروبية المنخرطة في الملف النووي الإيراني وأميركا، فإيران بالنسبة لدول كثيرة مصدرٌ للقلق وعدم الاستقرار والعكس صحيح، فالنظام الإيراني أيضا يتوجّس من الولايات المتحدة والغرب (وجيرانه)، ويظن أن أمنه أو أمانه متوقفٌ على امتلاك سلاح ردع نووي.
القتال الشرس فى باخموت الأوكرانية، والتى يصفها المعلقون بأنها مفرمة لحم، دليل على خوف الروس والأوكرانيين، كل منهما يريد نصرا ساحقا، لأنه يخاف من هزيمة يعقبها خزي وعار. الجميع يقاتل مدفوعا بالخوف على حدود الوطن وأمنه القومي واستقراره الداخلي.
فرنسا ماكرون التي ترغب في استعادة ثقة مستعمراتها السابقة في أفريقيا تريدهم أن ينسوا الماضي وجراحه، وتعدهم بأنها لن تكون رصاصة أو بندقية، بل طفاية حريق، حين يطلب منها المساعدة. تخاف فرنسا من الخروج صفر اليدين من جنة عدن الأفريقية لحساب دول أخرى تتمدد آمنة تحت ظلال الأشجار الاستوائية، والدول الأفريقية أيضا خائفة من المستعمرين السابقين، فهي تعرف أن وعودهم تتبخّر حين توقد النار تحت قدور المصالح.
أخبار عالمنا العربي تؤكّد أن الخوف يسكن خرائطنا منذ عقود، ويعرقل مسيرتنا نحو المستقبل
بريطانيا المأزومة خائفة من المهاجرين غير الشرعيين، فلم يعد في وسعها أن ترحب بضيوف جدد يضافون إلى طابور الفقراء الذين وصل تعدادهم إلى 2.5 مليون شخص، بريطانيا العظمى، التي كانت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس على وشك أن تكون أفقر من دول أوروبية، مثل بولندا وهنغاريا ورومانيا، كما حذّر زعيم حزب العمّال البريطاني، وتؤكّده تقارير صندوق النقد الدولي التي تتوقع أن تكون بريطانيا الدولة الوحيدة في مجموعة السبع التي تشهد ركوداً في العام 2023. يعيش المواطن البريطاني في خوف من مستقبل ضبابي، عبّرت عنه وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا بريفرمان، بمشروع قانون يمنع المهاجرين القادمين بصورة غير قانونية من طلب اللجوء، وكان مثار انتقاد عديد من منظمات مساعدة اللاجئين.
(2)
كل التصريحات التي تصدر من الساسة والقادة العسكريين في الولايات المتحدة تؤكّد عزم الولايات المتحدة على تصعيد الخلاف مع الصين، والذي سيصل، بالتأكيد، إلى صدام عسكري، توقّع بعضهم، مثل الجنرال الأميركي، مايكل مينيهان، أن يكون في عام 2025 بسبب تايوان. يتحدّثون بهدوء ورصانة عن حربٍ جديدة، رغم إدراكهم تبعات الحرب الأوكرانية التي مسّت العالم كله بضرر، خصوصا الدول النامية والفقيرة التي تكافح من أجل توفير الخبز لمواطنيها.
بعد الحرب العالمية الثانية، قررت الدول العظمى أن تنقل معاركها إلى خارج حدودها، وحرصت على وجود بؤر للصراع الساخن والدائم في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية لها، حتى تكون سوقا دائما لصادرات السلاح وساحة رحبة لدبلوماسية الوعود البرّاقة الخادعة. بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانفراد أميركا بالزعامة، قسّمت الأخيرة العالم إلى محوري خير وشر، طبقا للمصالح الأميركية وطواعية الدول لإرادتها، وجرى تطوير أسلحة خوف جديدة بدخول عدو جديد على الساحة الدولية، ممثلا في الجماعات الإسلامية الجهادية التي قامت بدورها في إرهاب الناس وإشعال الفتن والحروب الأهلية وسقوط أنظمة حكم وخراب دول. كما حرص الإعلام الغربي المهيمن والمؤثّر على أن يعرض وجهة النظر الغربية على اعتبارها الحقيقة المطلقة والوحيدة. استيقظ الغرب من غفوته الطويلة المريحة على جائحة كورونا، فإذا به أمام حدث جلل خارج عن السيطرة، حدث غير متوقع زلزل الاستقرار والشعور بالأمان لدى شعوب الغرب التي نسيت كيف تكون المعاناة ونقص المؤن والإمدادات، ودعت أوروبا زمن الوفرة والرفاهة مع جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. أما أخبار عالمنا العربي فتؤكّد أن الخوف يسكن خرائطنا منذ عقود، ويعرقل مسيرتنا نحو المستقبل.
الخوفُ شعورٌ فطريٌّ هدفه الحفاظ علي حياتنا من الأخطار، ولا يجب أن نتركه ينمو بلا رادع
(3)
يلجأ أغلب قادة الدول للسيطرة على شعوبهم بزرع الخوف في القلوب، وخصوصا حين يعجزوا عن إدارة الدولة بنجاح، فيتم إنتاج عدو خارجي وترويج خطره الداهم على مصالح الوطن والشعب. ويكون التخويف، أحيانا، من عدو داخلي، يستهدف قيم المجتمع وهويته، ماذا يفعل الإنسان العادي في مقابل هذا الكم الهائل من المخاوف المصنّعة في معامل استخباراتية؟ يُنسب إلى جلال الدين الرومي قوله: "بالأمس، كنتُ ذكياً فأردتُ أن أغيّر العالم... اليوم أنا حكيم، ولذلك سأغير نفسي". لا يسع الإنسان العادي أن يغيّر العالم من حوله ويعيد بناء نظامه الدولي على هواه، لكنه يمكنه فعل ذلك مع نفسه، برفض الخوف المطلق وإدراك أن الفقدان والخسارة شيء طبيعي، والحياة دورات. الخوفُ شعورٌ فطريٌّ هدفه الحفاظ على حياتنا من الأخطار، ولا يجب أن نتركه ينمو بلا رادع، ليدمّر حياتنا ويعيقنا عن المضي نحو المستقبل. والمستقبل دوما مغامرة لا نعرف تفاصيلها، ولكن كما يقول المتصوفون: "في المغامرة نجاة". الخوف يشلّ تفكيرنا ويصيبنا باليأس، ويجعلنا نستكين إلى ما نتصوّر أنه مساحتنا الآمنة، لكن الأمان الحقيقي داخلك وليس خارجك ويأتي بالاقتناع الذاتي أن لا شيء يستحق الخوف حتى الموت نفسه، لأنه كما قال محمود درويش: "الموت لا يعني لنا شيئاً. يكونُ فلا نكون".
إن كان طائر الخوف المخيف قد أطلقه أصحاب المصالح الخفية للتحكّم في العالم والسيطرة على العباد، فاحرص أنت على أن لا تجعله يستقرّ في شرفة منزلك.