2021 سنة التموقع الجيوسياسي والاستراتيجي في العالم

03 يناير 2022

(Getty)

+ الخط -

تستحقُّ السّنة المنصرمة أن تُوصف بأنّها التي تجهّزت فيها كلُّ القوى، في العالم، بل الدّول، جميعها، للتموقع على مستويين، جيوسياسي واستراتيجي، شاملين لكل المعطيات التي تسمح بمواجهة تحدّيات غيّر الوباء كلّ معالمها، مصحوباً بالعالم الافتراضي الذي أبرز أهميته للجميع، بل تحكّمه فينا.
بداية، يجب تأكيد مسلّماتٍ أضحت "باراديغمات" لا تقبل النقاش في العلاقات الدُّولية لا تستلزم إضاعة الوقت في مناقشتها، على غرار ثبات مرتكزات المصلحة، القوّة والبراغماتية كمسارات تسير على أساسها كل التّبادلات، الشّراكات ومبادرات التّعاون. كذلك فإنّها الأسس نفسها التي يؤدّي انفراطها إلى استدامة التّوتُّر والصراعات/ النّزاعات، وهي توطئة كان لا بدّ منها، حتّى لا ننخدع بمظاهر ما يُعرف بالنّاعم من أشكال القوة التّي تحاول بعض القوى تصديرها إلينا من أمثال تلك القضايا الكبرى المعروفة بحقوق الإنسان، أخلاقيات السّياسة، النّزاهة، الشفافية وغيرها من الورود المُحاطة، من كلّ جانب، بالأشواك أو العلقم الذي يلازم الدواء، ولكن لا يمكن الشّفاء إلا بشربه، على مضض.
تفكّر القوى الفاعلة في العلاقات الدُّولية، كلّما سنحت فرصة حدوث منعرجاتٍ فاصلةٍ في العالم، في تغيير استراتيجياتها للتّواؤم مع معطيات جيوسياسية تفرض نفسها على الكلّ وعليهم، إمّا التّكيّف معها، استيعاب تحوّلاتها أو الانحناء، فترة، للجارف من رياحها العاتية. وعلينا، هنا، الوقوف عند مجمل التّغيّرات الجيوسياسية التي ستقوم بوسم عالم الغد، حتماً.

تعلم أميركا أنّ تقدُّم الصين إلى زعامة النظام العالمي مسألة زمن (أعوام)، وليس على المستوى الاستراتيجي، فقط، بل على المستويات كافة

انطلقت شرارة الوباء الأولى من الصّين، ولعلّها علامة الغد الذّي نسير إليه بخطى سريعة وأكيدة، حيث الجميع كان يُخمّن أنّ المستقبل في المحيط الهادئ بين عمالقة العقود الثّلاثة القادمة، وفق ما استشرفه بول كينيدي، منذ أعوام في سفره "صعود القوى الكبرى...". العالم، جميعه يحتاج إلى الصّين، ولكنّه يهابها. وأميركا أولى تلك القوى التي تعلم، تمام العلم، أنّ تقدُّمها إلى زعامة النظام العالمي مسألة زمن (أعوام)، وليس على المستوى الاستراتيجي، فقط، بل على المستويات كافة.
وما يقلق العالم في الظاهرة الصّينية، أنّ الزّعامة تترافق مع مظاهر للإمبريالية لم تعهدها الدُّول التي عرفت الاستعمار والاستيطان، حيث تعمل بيجين (أو بكين بحسب الذائع) على رسم تلك الهيمنة في لبوس "طريق الحرير" واستبدال كبير، حقيقي، بالكفاءة والسّياسة العامّة بالمقاربة الصّينية، حيث بدأت تلك المعالم في البروز في بعض المناطق، عبر العالم، خصوصاً في القارّة السّمراء، أفريقيا، في إطار تنافسية شديدة مع القوى الكبرى، ولا سيما صاحبة النّفوذ الكبير في القارّة، القوى الاستعمارية السابقة، وفي مقدمتها فرنسا.
يُلاحظ، هنا، أمرٌ ذو بال، وهو استبدال الصّين "قوس الأزمات" بـ"طريق الحرير"، لإيهام العالم بأنّ مرورها من هذه الفضاءات ولتعويض الدُّول والاقتصاديات عن مظالم الرّأسمالية ودورة الكساد/ التّنمية من خلال الصّراعات والحروب إلى مقاربات تعامل، يختلط فيها الاقتصادي بفلسفة كونفوشيوس، حيث تنتشر مراكز ثقافية تحمل اسم الفيلسوف الصّيني، بالموازاة مع نقاط مرور طريق الحرير.

تنتاب القوى الكبرى نوبات قلق من المسعى الصّيني، حيث تتبادل الأدوار في صناعة الإلهاء في وجه التّقدُّم السّريع للصّين

تنتاب القوى الكبرى نوبات قلق من المسعى الصّيني، حيث تتبادل الأدوار في صناعة الإلهاء في وجه التّقدُّم السّريع للصّين، حتّى إذا اقتضى الأمر التضحية بالأذرع التي صنعت قوّة تلك الدول الفاعلة، على غرار حلف النّاتو، حيث ظنّ الغرب أنّ الرئيس الأميركي السابق، ترامب، كان يرفع صوته، منذراً بحلّ الحلف، إذا لم تقبل الدُّول الأعضاء المشاركة في الأعباء المالية. ليأتي بايدن، الدّيمقراطي، موسّعاً تلك التّهديدات باللّعب على أوتار التّهديد الصّيني، والتّضحية بفاعل مهمّ هو فرنسا، في صفقة الغوّاصات الأسترالية في إطار حلف أنغلوساكسوني صرف بين بريطانيا، أميركا وأستراليا، وهي المرّة الأولى التّي يتعرّض فيها الحلف، إضافة إلى مشكلات كبرى بين اليونان وتركيا، عضويه المتخاصمين في شرق المتوسّط، لمثل هذا الزّلزال الشّديد المنذر بزواله، ربّما لعدم تواؤم مع تلك المعطيات الجديدة في الباسيفيكي، حيث الصّين، وبرفقتها روسيا، الفاعل الآخر صاحب الأحلام التّوسُّعية ليس هناك في الباسيفيكي، فحسب، بل في أوروبا، أيضاً. ولعلّ مشكلة أوكرانيا خير دليل على تلك التّفاهمات الصّينية - الرُّوسية بتحريك فضاءات التّنافس وتوسيعها مع الغريم الأميركي والغرب المتحالف معه، ولا سيما أنّ روسيا أضفت على تلك الخصومة طابعاً آخر، يتمثّل بـ "طريق الطّاقة" عبر خطّ أنابيب 'نورث ستريم 2"'، من ناحية، وتطوير سلاح للحرب الفضائية بتجربة صاروخ مضاد للأقمار الصّناعية، من ناحية أخرى.
بالعودة إلى منطقتنا، الشّرق الأوسط، يشهد العالم كله بقاء دار لقمان على حالها، من حيث رضا الغرب وغريميه، الصّين وروسيا، إضافة إلى القوى الفاعلة في النّظام الدُّولي، إيران والكيان الصهيوني وتركيا، فاعلين أساسيين، ولكن مع تذكير الكلّ بأنّ وكالة لعب أدوار ما في المنطقة لا يمرّ من دون تكاليف يدفعها حتّى الكيان الذي أبرز ضعفه أمام صواريخ حركة حماس ومسيّراتها. تركيا ومتاعبها في سورية، "الناتو"، شرقي أوروبا، أو بانخفاض جنوني لعملتها أمام الدولار، ثم استرجاع بعض من عافيتها، وصولاً إلى إيران وتعقد ملفها النووي في فيينا بين حلم رفع العقوبات وكابوس حرب مع أميركا أو حليفتها الكيان الصهيوني.

قد يكون العالم الذي نحن مقدمون عليه سوداوياً بامتياز، بالنّسبة إلى ما كنا ننتظره ونتمناه

وطبعا، هنا، يبقى الضحية هو العالم العربي الذي لم يستفق، بعد، من ربيعه الذي أضحى شتاءً، ثم مشاريع لتهديم الدّولة، بل وتفكيك متعدّد الأبعاد، وكأنه معاقبة لها على جرأتها باقتحام مغامرة التغيير، ذلك أن الوضع القائم بعدم زعزعة ما يخدم تفاصيل تلك الوكالة لقوى فاعلة غير عربية في المنطقة، لا يسير بالتّوازي مع أنظمة ديمقراطية وقيم عدالة وشفافية قد تأتي على تلك التّوازنات لغير مصلحة ما يرمي إليه الغرب والقوى الكبرى في النّظام الدُّولي.
قد يكون العالم الذي نحن مقدمون عليه سوداوياً بامتياز، بالنّسبة إلى ما كنا ننتظره ونتمناه. ولكن الأمور التي تجري قد تكون دليلاً على ما يمكن استيعابه من دروس من كلّ ذلك التعقيد، لأنّ معرفة النّظام الدُّولي وأسس تسييره، قيماً ومصالح، سلوكاً وتوازناً، يمكّننا من استدراك ما فات بتفكير عميق في ما يمكن أن يقودنا إلى أفضل نظام للحكم، وأقرب القيم لتحقيق الكرامة، بعيداً عن أنانيّة الغرب الذّي ما فتئ يذكّرنا بأنّه قد أكمل منظومة قيمه بنظرية الاستبدال الكبير الذي يجعل منّا، احتمالاً، إرهابيين، مع وجوب أن نبقى في أوطاننا، لأنّ نظام "التُّقية" بتبنّي قيم الغرب غير حقيقي، وتفكيك وجودنا أضحى واجباً بدايةً بقضية الأمّة المركزية، فلسطين، من خلال التّطبيع وفكرة السلام الجديد، وصولاً إلى الرضا، لنا وللمنطقة، بأدنى قيم العدالة والكرامة، لأنّنا لا نستحقّ إلا ذلك، في رؤية الغرب وإدراكه، حتّى المواطنين منهم، فضلاً عن قياداتهم بكلّ أطيافهم ومواقعهم.
بالنتيجة، لن يُنتج انحسار الوباء الشّفاء الكامل، بل سيُبقي على تداعياتٍ ساحتها القيم والتغيير المرجو، ولكن بخلفية المصالح التي أصبحت رهن معطيات الخوارزميات التي يسطّرها عمالقة العالم الافتراضي، قد يكون أفضلَ تعبير عنها فيلم جديد من أميركا يحمل عنواناً بارزاً "Don’t look Up" (لا تنظر إلى الأعلى) يفضّل فيه التّضحية بالبشرية (غير الغرب، هنا) للإبقاء على الأصلح، بالنّسبة إلى العالم تحقيقاً لمصالح طبقة من الرأسماليين والفاعلين الحقيقيين في هذا العالم.
قد يكون هو العالم الذي ينتظرنا، يطالبنا بعدم الرُّؤية إلى ما هو أعلى من الواقع الذي يفكّر في أنّه الأجدر بنا، لأنّه "الأسود الذي يليق بنا"، بلغة أحلام مستغانمي، إن سمحت بذلك.