سوسيولوجية الحرّاقة... دراما قوارب الموت في الجزائر
تشهد السواحل الجزائرية، كلّما حلّ فصل الصيف أو هدأت العواصف في المتوسّط، هروب مئات من الجزائريين، الشباب، محاولين الوصول الى الضفّة الشمالية؛ أوروبا، ربّما لتحسين أوضاعهم الاجتماعية وتحقيق حُلمهم في مستوى اقتصادي لم يجدوه في بلدهم. تحاول المقالة تناول الموضوع، ولكن من وجهة نظر سوسيولوجية، أي الإجابة عن سؤال هُويَّة الفئات التي تدفع أموالاً طائلةً للوصول إلى أوروبا (في المتوسّط، ما بين خمسة آلاف يورو إلى عشرة آلاف يورو بالنسبة لنوع أرقى من القوارب)، هل هم من الشباب فقط؟ ما هي مستوياتهم التعليمية؟ ماذا يملكون من تكوين في أيديهم؟ من أين حصلوا على المال الذي سمح لهم بركوب قوارب الموت؟ هل هم من سكّان المدن الكبرى أمّ ثمّة مهاجرون من الأرياف؟
بدايةً، هناك تخصُّص في العلوم الاجتماعية يُعنَى بالمسألة محاولاً الإجابة على إشكاليات سوسيولوجية خاصّة بالهجرة، تتضمّن التعرّض لمسائل الهجرة من وجهة نظر بلدان منشأ الظاهرة، والثقافات والهُويَّات التي يحملها المهاجرون، وإشكالات الاندماج فيما بعد في البلدان المُستقبِلة للهجرة، إضافة إلى الحديث عن سوق العمل، والفئات المعنية بالهجرة وأصولهم الاجتماعية ومستوياتهم العلمية، وكلّها، كما نرى، إشكالياتٌ مهمّةٌ تعرّفنا إلى الظاهرة والفاعلين الأكثر أهمّيةً فيها، أي المهاجرين، ما يستدعي، منّا، جهداً أوّلياً لقراءة الظاهرة من وجهة نظر جزائرية، تركيزاً على ظاهرة الحرّاقة، بقصد التعرُّف إليهم بأدوات علم الاجتماع.
بدأت الظاهرة في البروز بعد تشديد أوروبا ظروف استقبال المهاجرين، وغلق حدودها بعد بدء العمل بنظام فرض التأشيرة من ناحية، وارتفاع البطالة بين فئة الشباب أقلّ من 30 عاماً، الفئة الأكثر تمثيلاً للتوزيع العُمري للسكّان في الجزائر (قرابة 70%) من ناحية أخرى، ما اقتضى إبداع طريقة للهجرة من دون الحاجة إلى تلك الإجراءات، بل تجاوزاً لها، وهي تحتاج إلى عرض وطلب. عرض استطاعت مافيا الإجرام تحيُّن فرصته من خلال توفير القوارب، وطرق الهجرة، ومبلغ يدفع من المهاجر. وطلب شكّله العدد الهائل المتزايد عاماً بعد عام من المرشّحين للهجرة، في كلّ موسم صيف، بسبب عدم تمكُّن سوق العمل من استيعاب العدد الهائل من الأيدي العاملة التي تدخل السوق، إضافةً إلى عواملَ أخرى.
المرأة أيضا أضحت تهاجر سرّياً إلى الخارج، كما أنّها تهاجر بطرقٍ شرعيّةٍ بأعداد كبيرة
هناك سبب سهّل بروز الظاهرة، وهو جغرافي يتمثّل في قرب السواحل الأوروبية من البلدان المغاربية في نقاط محدّدة، حيث لا تبعد إيطاليا عن السواحل الشرقية للجزائر إلّا نحو مائتي كيلومتر، بل أقلّ من ذلك بالنسبة إلى السواحل الغربية في بعض النقاط، إذ تقلُّ المسافة إلى أقلّ من مائة كيلومتر تقطعها بعض السفن السريعة (قوارب دخلت الخدمة في الأعوام الماضية، لا تحتاج إلّا بضع ساعات للوصول إلى السواحل الإيطالية أو الإسبانية). يُضاف إلى هذا المتغيّر الجغرافي، عاملٌ رمزيٌّ هو رؤية المغاربة أوروبا جنَّةً فوق الأرض، بما توفّره من تسهيلات وعيش بمقاربة حرّية، يقيسها بعضهم بما يُتاح لهم من قدرات وإمكانيات، في حين يقيسها آخرون بما تتيحه من مغامرات تدخل في إطار عالم مكبوتات وتابوهات (الإشكاليات المحرّم الاقتراب منها بمرجعية منظومة الثقافة والتقاليد السائدة) لا يمكنهم ممارستها في بلدانهم الأصلية.
بقصد إقرار تلك القراءة السوسيولوجية لظاهرة الحرّاقة في الجزائر، يمكن الحديث عن عدة متغيّرات ترتبط بالظاهرة، وجوداً وعدماً، على غرار التسرُّب المدرسي، ونقص الخدمات في بعض الولايات (المحافظات) الدّاخلية، من ناحية عروض التكوين أو عدم تناسب التكوين المهني مع عروض سوق العمل لكلّ منطقة، بالنظر إلى تمايزات أو خصوصيّات اقتصادية، كما ترتبط بمتغيّرات محدّدة مثل مضمون المنظومة التّربوية، وعدم استيفاء تلك المنظومة من حيث توفير المعلّمين ممّا يُقلّص مستوى تلاميذ وطلبة مناطق بعينها، خاصّةً الداخلية منها، ويتعلّق الأمر هنا باللغات الأجنبية مثلاً ممّا يؤثّر، أعواماً بعد ذلك، في مستوى أولئك لولوج سوق العمل، أو حتّى القدرة على متابعة فعلية وجدّية للدّراسة في الجامعات التقنية التي تعرف استخداماً حصرياً للّغات الأجنبية في تدريسها (الطبّ مثلاً).
نأتي إلى متغيّر الجنس، لنلاحظ أنّ ثمّة فئة جديدة أضحت تنافس الذكور من الشباب في الهجرة السرّية عبر قوارب الموت، وهي ظاهرة لم نكن نشاهدها في الأعوام السابقة، إذ كانت الظاهرة حصريةً للذكور، وهو ما يمكن تفسيره بخروج المرأة بعدد كبير إلى سوق العمل، وبالنظر إلى مشاركتها للرجل في ظاهرة البطالة التي تمسُّها، كما يجب الإشارة هنا إلى أنّ تقاليد المجتمع في منع المرأة من السّفر وحدها رُفِعت، لأنّ المرأة أضحت تهاجر سرّياً إلى الخارج، كما أنّها تهاجر بطرقٍ شرعيّةٍ بأعداد كبيرة نحو الخارج، من العاملات في مجالات الطبّ ومجالات متخصّصةٍ أخرى.
بالنسبة لمتغيّر الأصول الاجتماعية للمرشّحين للهجرة السرّية عبر قوارب الموت، فقد أبرزت الملاحظات للقوارب والأخبار/ الصور التي تُنشَر في وسائل التواصل الاجتماعي أنّ الظاهرة استفحلت وأضحت تمسُّ كلّ فئات المجتمع باختلاف أصولهم الاجتماعية، بل رَشُحَت أخبار مؤكّدة أنّ عائلات بأكملها تهاجر، وإطارات بشهادات جامعية ترحل عن البلد بنفس الطريقة، إضافةً إلى ظاهرة هجرة أطفال ومراهقين من ناحية، ومرضى يبحثون (وفق كلامهم) عن علاج مستعص في المنظومة الصحّية الوطنية من ناحية أخرى، ممّا يجعل من الظاهرة شأناً مجتمعياً يمسُّ فئات المجتمع كلّها، ويحتاج إلى حلّ مجتمعي تفكّر فيه فئات المجتمع كلّها لتجد له حلّاً عاجلاً.
"يسافر" الأغنياء عبر قوارب تحمل اسم "السريع"، أي خدمة راقية للهجرة البحرية في قوارب تتوفّر لها محرّكات سريعة، وأماكن مريحة
يشير متغيّر الأصول الاجتماعية إلى مزاحمة الأثرياء للفقراء في الحرّاقة عبر قوارب الموت، مع فارق أنّ عصابات تهريب البشر عرفت كيف تستغلّه بتوفير خدمة راقية من الناحية المالية، ومن ناحية ظروف السفر وسرعة الانتقال إلى الضفّة الأخرى، يسافر الفقراء عبر قوارب تحمل حقّاً مسمى قوارب الموت، لعدم توفّر أدنى شروط الإنقاذ، والوصول الآمن إلى الضفّة الأخرى، بل يُقال في بعض مغامرات العبور نحو أوروبا إنّ العصابات ترمي بالمهاجرين في عرض البحر إذا اعترضتهم أو كشفتهم إمّا البحرية الوطنية (بلد المنشأ) أو تلك المنتمية إلى البلدان المُستقبِلة، التّي سمعنا كثيراً عن قصص قتلها المهاجرين، ورميهم بالرصاص، حتى لا يصلوا إلى مبتغاهم. أمّا الأثرياء، فهم يسافرون عبر قوارب تحمل اسم "السريع"، أي خدمة راقية للهجرة البحرية في قوارب تتوفّر لها محرّكات سريعة، وأماكن مريحة، توفيراً لخدمة درجة أولى بسعر عال، يُقال إنّه يقارب ثلاثة أضعاف ما يدفعه الفقراء في قوارب الموت الحقيقية، وهي ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى تفسير، فلا يمكن الحديث عن المرجعية الاجتماعية من فقرٍ وغنىً، في هذه الحالة، إذ إنّ الجميع يعمل للهجرة، لكنْ كلّ وفق إمكاناته الاقتصادية والمالية.
هناك متغيّران يحتاجان إلى اهتمام كبير، يتعلّقان من ناحية أولى بماهية التّكوين الذّي يملكه هؤلاء المهاجرون السرّيون، ومن ناحية ثانية؛ من أين لهم بالمال لركوب قوارب الموت، فالأثمان كبيرة، بآلاف اليوروهات (مئات الملايين من السنتيمات بالعملة الجزائرية)؟ ... غالباً ما يكون المرشّحون للهجرة السرّية من دون مستوىً دراسي، وبلا تكوين، أي بلا معرفة بحرفة يرتزقون منها، لتكون الهجرة من دون أيّ إمكانية للاندماج، بالمعنى الاقتصادي. وبالنتيجة، يكون المهاجر سبباً في إحراج البلاد، وقد يكون سبباً لابتزاز بلاده على غرار إشكالية الأوامر بمغادرة التراب الفرنسي التي تصدر عن وزارة الداخلية الفرنسية، و يكون المهاجرون، من أصول جزائرية، ضحايا لها لسبب ما، وتحتاج لتنفيذها إلى تصريحات قنصلية، ممّا يدفع البلاد إلى إنكار انتماء هؤلاء إلى الجزائر، أو الشعور بأنّ هؤلاء المهاجرين أداةُ ضغط عندما تكون العلاقات مع فرنسا سيّئةً، أو أن تكون مطالبات الجزائر، في ملفّات ما (الذاكرة، مراجعة الاتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، إقصاء فرنسا من صفقات القمح المستورد من الجزائر... إلخ).
لا يمكن تجاوز هذا المتغيّر، التكوين واكتساب حرفة أو شهادة من المرشّح للهجرة، من دون الربط بين ظاهرة التسرّب المدرسي، وقصور المنظومة التربوية في الاستجابة للمطالب الواقعية للتعليم، من حيث المنشآت والبرامج التربوية. ناهيك أيضاً عن منظومة التكوين، التي لا تستجيب البتّة لواقع الاقتصاد في الخصوصيّات لكلّ مناطق البلاد المختلفة، ولهذا نجد مهاجرين بطموحات لعيش أفضل، لكن بقدرات حِرفية، وبمستويات للعمل عالي التقنية، أقلّ ممّا يتطلّبه سوق العمل في أوروبا، لتتحوّل الهجرة بسبب ذلك واقعاً مريراً ومتابعات للتهجير وللتّوقيفات، فضلاً عن تحوّل ظاهرة الهجرة إشكاليةً سياسيةً واستراتيجيةً في التعامل بين الدول للحصول على المصالح أو الدفاع عن مواقف.
الجميع يعمل للهجرة، لكن كلّ وفق إمكاناته الاقتصادية والمالية
نصل إلى المتغيّر المالي الذي تتطلّبه الهجرة السرّية، عبر قوارب الموت، إذ يدفع المهاجرون، كلٌّ من منطلق سبيل هجرته، متوسّط ستة آلاف يورو، إلى عشرة أو 12 ألف يورو، وهي مبالغ ضخمة، تشارك الأسرة (في حالات حكاها من نجح في الوصول إلى الضفّة الأخرى) في جمعها، وتقوم الأمّهات والأخوات ببيع حُليِّهن لتوفير تلك المبالغ، في حين أنّ الأثرياء من هؤلاء المهاجرين يدفعون أموالاً كبيرةً تكون مصادرها ناتجةً من بيع أصول تجارية، بيوت أو استخدام إرث عائلي لتوفير المبلغ المالي، وهذا ما يطرح العلاقة بين امتلاك ذلك المبلغ المالي، الذي يتمكّن الفرد من خلاله من القيام بمشروع ما قد يرفع عنه حرج الهجرة، وما يتبع تلك المغامرة من إهانة لكرامة الإنسان، ناهيك عن احتمالية التعرّض للموت في ظروف مأساوية، بل للسّجن في مراكز إيقاف أشهراً وأعواماً، وأبعد من ذلك، التعرّض للسجن من دون معرفة المكان ولا الوضع الإنساني، كما حدث في حالات هجرة جزائريين توقّفت المغامرة بهم في بلدان جارة أو في بلدان أوروبية من دون إمكانيّة الحصول على معلومات بخصوصهم.
تلك هي دراما قوارب الموت من الناحية السوسيولوجية، وهي محاولة لفهم الظاهرة من خلال رفع اللثام عن الفاعلين، أي المرشّحين للهجرة، في ظاهرة وُصِفت بالمأساوية، تلقّفتها بعض الجهات السياسية لتتاجر بها سياسوياً على مستوى بعض المؤسّسات، كما تلقّفتها جهات إجرامية لتجعل منها نشاطاً يدرّ أرباحاً كبيرةً في قوارب لا تتوفّر على متنها أدنى شروط السلامة، مع الحديث هنا، كما أشرنا آنفاً، عن تطوير عروض الخدمات لتشمل المغامرين بالهجرة بتوفير قوارب أرفع قيمةً، وأسرع، وبمحرّكات أوثق.
يمكننا في هذا الإطار تناول الظاهرة استزادةً في فهمها، وتوفيراً لأدوات قراءة متعدّدة التخصُّصات للظّاهرة (دراما قوارب الموت)، من مناظير اقتصادية وأمنية/ دفاعية، كما يمكن تناول الظاهرة بمنظورات أخرى ذات طبيعة سياسية. ولعلّ الانطلاق في ملاحظة الظاهرة وقراءتها من المنظور السوسيولوجي، الأقرب لفهم دوافع المرشّحين للهجرة وطموحاتهم في الانتقال من الجزائر إلى أوروبا، مع استخدام مقاربة غير قانونية وخطيرة بالنسبة لحياة الإنسان.
يتاجر سياسيون بدراما قوارب الموت، وأصبحت نشاطاً يدرّ أرباحاً كبيرةً للعصابات الإجرامية
بقي منظور آخر هو مغاربي و جزائري، بطريق أولى، وهو المنظور الاصطلاحي، باعتبار تلك اللّغة المستخدمة في ظاهرة الهجرة غير الشرعية على غرار الحرّاقة (مرادف الهجرة لكن بوسائل غير قانونية)، البوطي (تعبير عن قوارب الموت الرثّة و الخطيرة)، والسريع (قوارب أرقى لطبقة الأثرياء الذين انضمّوا إلى مغامرة الهجرة السرّية، و لديهم أموال كبيرة يمكن أن تُدفَع لظروف أيسر في السفر نحو أوروبا)، ولْهيك (عنوان للضفّة التي ينتقل إليها المهاجر في أوروبا)، وحرّاق (اسم المرشّح للهجرة السرّية بواسطة الحرقة، أي الطريقة غير المشروعة)، وغيرها من مسمّيات أبدعها الجزائريون في الحديث عن ظاهرة أضحت مأساويةً، وقضية حياة في آن، بالنسبة لكثيرين من الشباب، ولفئات اجتماعية متنوّعة، وتغطّي جغرافيا الجزائر برمّتها، لتكون الظاهرة موضوعَ دراسةٍ، وبحثٍ، من الأكاديميين ومختلف الفاعلين على مستوى السلطة، ومختلف مؤسّسات المجتمع، لأنّها ظاهرة أخذت أبعاداً خطيرةً، وخطيرة جدّاً.
في الختام، هناك فاعل في ظاهرة الحرّاقة يجب الإشارة إليه، وهو رجل الدين (أدلى بعضهم بدلوه)، إذ حرّم بعضُهم الحرقة، في حين أنّ بعضهم الآخر استخدم القياس على ركوب البحر في فتاوى القدماء، وأحلّ الظاهرة بالنظر إلى وسائل الهجرة، من توفّر البوصلة، ومعرفة مسبقة بأحوال الجوّ واضطراب البحر، إضافة إلى استخدام مافيا القوارب لربابنة عارفين بالبحر وتقلُّباته إذ إنّ أغلبهم إمّا من الصيّادين القُدماء، أو من العارفين بركوب البحر والحرّاقة.