21 يوليو 2024
عندما تتذكّر تونس هجرة الكفاءات الطبية
تؤكّد معطيات رسمية تونسية من اللجنة العليا المحدثة من الحكومة، والمختصة بوضع السياسيات وتنفيذها لمجابهة انتشار فيروس كورونا وتداعيات ذلك على الراهن الاقتصادي والاجتماعي التونسي، وسيناريوهات ما بعد كورونا، عودة ملف هجرة الكفاءات التونسية، وخصوصاً في المجال الصحي، حيث كشف الفيروس عن نقص فادح في القطاع الطبي وشبه الطبي في المؤسسات الصحية في البلاد، ما عقد دور اللجان الحكومية المحدثة لمواجهة الوباء، وجعل الحكومة تستنجد بطواقم الأطباء المتقاعدين من مدنيين وعسكريين.
أحيت أزمة كورونا هذا الملف وأزاحت الستار عن قضية حارقة اعتبرت نزيفاً حادّاً ينتظر أن يكون من أولويات سياسيات الدولة ما بعد كورونا. وقد وصل الانشغال بهذا الملف سابقاً إلى مجلس الأمن القومي، حيث خصص أحد اجتماعاته حيزاً واسعاً من نقاشاته لهذا الملف، فقد تفاقمت وتيرة الظاهرة في سنوات ما بعد الثورة، وعدد هذه الكفاءات التونسية المهاجرة منذ 2012، حسب تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية الصادر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، حوالي خمسة وتسعين ألفاً، استقر معظمهم في أوروبا، وبنسبة مهمة في فرنسا وألمانيا ثم كندا ودول الخليج العربي. إذ تحتل تونس المرتبة الثانية عربياً بعد سورية في هجرة الكفاءات.
وتفيد إحصائيات ديوان التونسيين بالخارج، والوكالة التونسية للتعاون الفني، بأن هناك 8500 كفاءة عالية اختارت الهجرة إلى الخارج، منها ثلاثة آلاف أستاذ جامعي، و2300 مهندس، وما يفوق ألف طبيب في اختصاصات مختلفة. وذكرت وزارة تكنولوجيات الاتصال، في أحدث
إحصائياتها، أن القطاع الذي تشرف عليه (تكنولوجيا الاتصال والمعلومات) أصبح يعاني نزيفاً حاداً، إذ اختار 90% من خرّيجي المدارس العليا للاتصالات ممن زاولوا دراستهم العليا في تونس أو في الخارج الهجرة، إذ "تغريهم بلاد أوروبا، وفي مقدمتها فرنسا، للعمل فيها، لمنحهم رواتب عالية، فضلاً عن حق الإقامة للقرين أو القرينة وللأبناء".. وقد أكّدت هذا المعطى مجلة ليدرز المتخصصة، فقد نبهت إلى ضرورة الشروع الفوري في وضع "مقاربة استراتيجية لهجرة الكفاءات التونسية، بعد أن وجدت البلدان الأوروبية في استقطاب الكفاءات من بلدان الجنوب بديلاً لسدّ الحاجة إلى أربعمائة ألف مهندس في مختلف الاختصاصات، جرّاء هجرة كفاءاتها إلى الولايات المتحدة وكندا، حيث الرواتب أعلى والامتيازات أوفر". وقد أخذت الظاهرة في القطاع الطبي منعرجاً خطيراً، حيث توقعت عمادة الأطباء التونسيين أن يصل العدد إلى 2700 طبيب سنة 2022.
وكشفت أزمة كورونا عن حاجة تونس إلى عدد أوفر من هذه الكفاءات، إذ تشهد كبرى المستشفيات التونسية نقصاً فادحاً لمواجهة الوباء، وهو ما أقرّت به وزارة الصحة، وتأكد في احتجاجات واسعة، بسبب فقدان الإطار (الكادر) الطبي وشبه الطبي، وبالتالي صعوبات التنقل الى العاصمة أو كبرى المدن الساحلية لتلقي العلاج ولإجراء التحاليل خلال فترة الحجْر الصحي، خصوصاً وأن المركز الوحيد الذي تم تخصيصه للغرض كان في مستشفى في العاصمة قبل فتح مركزين آخرين في معهد باستور وسوسة.
ويرصد رئيس تحرير مجلة ليدرز التونسية، عبد الحفيظ الهرقام، خطر "هجرة الكفاءات، والهجرة عموماً، في أنها أصبحت في الراهن التونسي ثقافة مجتمعٍ ترسّخت في أذهان الشباب، وحتى الكهول، فالطلبة والأطباء والمهندسون وأساتذة التعليم العالي غدوا يعيشون على وقع رحيل مبرمج، بعد أن فقدوا الأمل في قدرة البلاد على استيعابهم وتوظيفهم وتحقيق طموحاتهم". وقد انعكست هذه الوضعية، للأسف، على تعاطي الدولة مع الأزمة، حيث اتصف بارتباك الإجراءات المتخذة، في مستوى توزيع الأطباء، وتحليل الحالات المصابة، واكتشافها المبكر، وقبولها في المستشفيات، كما أهملت، في مرحلة أولى، التعويل على القطاع الخاص، على الرغم من مبادرته بعرض المساعدة، ولجأت كذلك إلى أصحاب النُّزل والمصحّات الخاصة، ومبادرات المجتمع المدني، في ظل نقص فادح في التجهيزات الطبية من آلات تنفس اصطناعي وكمّامات وأسرَة مهيأة وغيرها... ما دفع الشباب التونسي الخلّاق إلى ابتكار وسائل محدثة، ساهمت بقدر كبير في تطويق الأزمة.
وفي متابعة لهذه الظاهرة، يرى خبراء ومتخصّصون أن ما كشفته أزمة كورونا في ما يتعلق
بهجرة الكفاءات التونسية يمثل الوجه الخفي لسياسات تهجير الكفاءات التونسية التي مورست عقوداً طويلة، عبر اتفاقيات مبرمة مع أطراف أجنبية، منها اتفاق "الشراكة من أجل الحركية" الموقع مع الاتحاد الأوروبي في مارس/ آذار 2014، وأرسى مبدأ "الهجرة الانتقائية"، بحيث يقع تيسير منح تأشيرة الإقامة طويلة الأمد والعمل لفائدة الطلبة تزامناً مع اعتماد برنامج العمل التونسي الأوروبي الذي فتح المجال للمفاوضات بشأن اتفاق التبادل الحر الشامل.. وكذلك اتفاق "الشراكة من أجل الشباب" الموقع في بروكسل سنة 2016، ولم يكشف عن مضامينه (!). وهو ما حذّرت منه أخيراً منظمة الأطباء الشبان التونسيين، مؤكدة أن "رقم الأطباء المهاجرين في صعود مرعب، وأن الذين أقبلوا على المشاركة في مناظرات الهجرة للعمل بأوروبا هم من الأطباء المقيمين وغير المقيمين ومن اختصاصات مختلفة". وأوضح رئيس المنظمة، جاد الهنشيري، أنّ في وسع الأطباء التونسيين مغادرة البلاد، و"العمل في فرنسا، مثلاً، بامتيازات خيالية متى أرادوا ذلك".
أعلنت حكومة إلياس الفخفاخ أن تونس تحرص على إرساء منظومة متكاملة لضمان مقومات هجرة آمنة ونظامية، وعلى وضع هذه المسألة، بمختلف جوانبها وأبعادها، ضمن أولوياتها، وأنها شرعت في إعداد مخطط عمل استراتيجي في مجال هجرة الكفاءات، يهدف إلى توحيد الرؤى ودعم التنسيق بين مختلف الهياكل المتدخلة في المجال، وسيكون أيضاً من ضمن أولوياته إعادة النظر في نسب الهجرة، من خلال الانطلاق في إدخال تعديلات جوهرية على المنظومة التشريعية والمؤسساتية التي تحتاج إلى مراجعةٍ تأكدت اليوم، في ظل مطالباتٍ بالحفاظ على الكفاءات الوطنية واستقطابها، وتوفير أفضل الظروف لعملها، ومراجعة مستويات التأجير وتحسين البيئة العلمية والبحثية من خلال توفير مراكز البحث والمخابر وفتح الآفاق للباحثين والمبدعين الشبان.
أزمة كورونا، على الرغم من مساوئها، أحيت ملفات عديدة، منها الدولة الاجتماعية والدور الاجتماعي الغائب للأحزاب، وقبل ذلك نزيف هجرة الكفاءات، فهل تظل تونس في انتظار أزمة قادمة حتى تحيي فيها تحدّيات ومجالات حوية أخرى حريّة بالدرس والمعالجة، وما أكثرها!
وتفيد إحصائيات ديوان التونسيين بالخارج، والوكالة التونسية للتعاون الفني، بأن هناك 8500 كفاءة عالية اختارت الهجرة إلى الخارج، منها ثلاثة آلاف أستاذ جامعي، و2300 مهندس، وما يفوق ألف طبيب في اختصاصات مختلفة. وذكرت وزارة تكنولوجيات الاتصال، في أحدث
وكشفت أزمة كورونا عن حاجة تونس إلى عدد أوفر من هذه الكفاءات، إذ تشهد كبرى المستشفيات التونسية نقصاً فادحاً لمواجهة الوباء، وهو ما أقرّت به وزارة الصحة، وتأكد في احتجاجات واسعة، بسبب فقدان الإطار (الكادر) الطبي وشبه الطبي، وبالتالي صعوبات التنقل الى العاصمة أو كبرى المدن الساحلية لتلقي العلاج ولإجراء التحاليل خلال فترة الحجْر الصحي، خصوصاً وأن المركز الوحيد الذي تم تخصيصه للغرض كان في مستشفى في العاصمة قبل فتح مركزين آخرين في معهد باستور وسوسة.
ويرصد رئيس تحرير مجلة ليدرز التونسية، عبد الحفيظ الهرقام، خطر "هجرة الكفاءات، والهجرة عموماً، في أنها أصبحت في الراهن التونسي ثقافة مجتمعٍ ترسّخت في أذهان الشباب، وحتى الكهول، فالطلبة والأطباء والمهندسون وأساتذة التعليم العالي غدوا يعيشون على وقع رحيل مبرمج، بعد أن فقدوا الأمل في قدرة البلاد على استيعابهم وتوظيفهم وتحقيق طموحاتهم". وقد انعكست هذه الوضعية، للأسف، على تعاطي الدولة مع الأزمة، حيث اتصف بارتباك الإجراءات المتخذة، في مستوى توزيع الأطباء، وتحليل الحالات المصابة، واكتشافها المبكر، وقبولها في المستشفيات، كما أهملت، في مرحلة أولى، التعويل على القطاع الخاص، على الرغم من مبادرته بعرض المساعدة، ولجأت كذلك إلى أصحاب النُّزل والمصحّات الخاصة، ومبادرات المجتمع المدني، في ظل نقص فادح في التجهيزات الطبية من آلات تنفس اصطناعي وكمّامات وأسرَة مهيأة وغيرها... ما دفع الشباب التونسي الخلّاق إلى ابتكار وسائل محدثة، ساهمت بقدر كبير في تطويق الأزمة.
وفي متابعة لهذه الظاهرة، يرى خبراء ومتخصّصون أن ما كشفته أزمة كورونا في ما يتعلق
أعلنت حكومة إلياس الفخفاخ أن تونس تحرص على إرساء منظومة متكاملة لضمان مقومات هجرة آمنة ونظامية، وعلى وضع هذه المسألة، بمختلف جوانبها وأبعادها، ضمن أولوياتها، وأنها شرعت في إعداد مخطط عمل استراتيجي في مجال هجرة الكفاءات، يهدف إلى توحيد الرؤى ودعم التنسيق بين مختلف الهياكل المتدخلة في المجال، وسيكون أيضاً من ضمن أولوياته إعادة النظر في نسب الهجرة، من خلال الانطلاق في إدخال تعديلات جوهرية على المنظومة التشريعية والمؤسساتية التي تحتاج إلى مراجعةٍ تأكدت اليوم، في ظل مطالباتٍ بالحفاظ على الكفاءات الوطنية واستقطابها، وتوفير أفضل الظروف لعملها، ومراجعة مستويات التأجير وتحسين البيئة العلمية والبحثية من خلال توفير مراكز البحث والمخابر وفتح الآفاق للباحثين والمبدعين الشبان.
أزمة كورونا، على الرغم من مساوئها، أحيت ملفات عديدة، منها الدولة الاجتماعية والدور الاجتماعي الغائب للأحزاب، وقبل ذلك نزيف هجرة الكفاءات، فهل تظل تونس في انتظار أزمة قادمة حتى تحيي فيها تحدّيات ومجالات حوية أخرى حريّة بالدرس والمعالجة، وما أكثرها!
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023