أي نظام مجالسي لتونس المريضة؟
لمناسبة مرور سنتين على إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021 التي كرّست في تونس انقلابه على دستور 2014 ومجمل المؤسّسات التي انبنى عليها مشروع الانتقال الديمقراطي في تونس، جال الرئيس قيس سعيّد بجولة على أحياء شعبية تشكّل حزام الفقر للعاصمة تونس، والذي يطلق عليه اصطلاحا "الحزام الأحمر"، في إشارة إلى كثافة المتساكنين فيه من الشرائح المعدمة، والتي تفتقد للوسائل الأساسية لحياة كريمة بشّرت بها ثورة الكرامة في 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
جوبه قيس سعيد أو جوبه بطلبات ساكني هذه الأحياء للماء والإضاءة والمواد التي أصبح فقدانها أمرا عاديا وطاحونة للشيء المعتاد من دقيق وسكر وزيت وقهوة، فاكتفى بردّ واحد.. "لا عودة إلى الوراء". وتزامن هذا الردّ الهلامي مع إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات إن انتخابات المجالس المحلية في البلاد ستكون في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، فقد تم التحديد الترابي للعمادات والمعتمديات والمحافظات. وذكرت الهيئة أن القيام بهذه العملية ضرورة اقتضاها المرسوم 10 لسنة 2023 المؤرّخ في 8 مارس/ آذار 2023، والمتعلق بتنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم.
جاء إعلان هيئة الانتخابات هذا مكرّسا النظام السياسي الذي يُعرف بالنظام المجالسي. وبذلك ستمضي تونس إلى انتخابات ما يسمى كذلك مجلس الأقاليم والجهات غرفة ثانية للبرلمان، والذي سيمارس صلاحيات المراجعة والرقابة على ما سيصدُر من تشريعات وقوانين برلمانية. ويأتي هذا الإعلان والتونسيون يتساءلون إلى أين تمضي البلاد، وهل هناك بوصلة حقيقية تحدّد مستقبل أيامهم، وتشعرهم بالأمن والأمان على إيجاد ما يلزم من الإمكانات والوسائل للعيش الكريم في ظل منعرج سياسي تاريخي خطير، ما زال يبحث عن بوصلة بشّر فيه صانعه قيس سعيّد بتاريخ جديد لتونس وللإنسانية، بعد أن اختار أن يذهب بعيدا في اتخاذ القرار السياسي الذي لم يتوقّعه أحد، وذلك قبل سنتين من سنوات تونس العجاف، عنوانها فشل رئيس الجمهورية في تحقيق وعوده بعد مرور سنتين على تدابيره الاستثنائية، إذ تجد منظمّة "أنا يقض"، في بيان حول مراقبة قياس مدى التزام قيس سعيّد بتنفيذ وعوده، أنه حقّق خمسة وعود فقط من أصل 49 وعدا التزم بها، معتبرة أن أداءه كان سلبيا بما وعده به. وبخصوص الوعود في المجالين السياسي والتشريعي، قالت المنظمة إن سعيّد فشل في تحقيق سبعة وعود من تسعة، وأنه حقق وعدين فقط، يتعلقّان بالاستفتاء وبتنظيم انتخابات تشريعية هي الأولى من نوعها قياسا بنسبة إقبال الناخبين (11%). وتجمع باقي المنظمات الحقوقية على أن سعيّد قام بعكس ما وعد به بالنسبة للوعود المتعلقة بالحقوق والحريات، في إشارة إلى سجن المعارضين، ساسة وإعلاميين.
تواصل الحكومة فشلا بيّنا لتواجَه رئيسة الحكومة، نجلاء بودن وأعضاء حكومتها بنقد حادّ من التونسيين
وفي مجالات القضاء والمرأة والشباب، ذكرت هذه المنظمات أن حصيلة سعيّد فيها سلبية، وأن 100% من وعوده في هذا المجال لم تتحقّق، أو جرى عكسها. واعتبرت أن الحصيلة سلبية كذلك بنسب تتراوح بين 75% و80% في ما يتعلق بمجالات البيئة والصحة والتعليم، مؤكّدة أن النسبة تناهز 66% في مجال أملاك الدولة وأموالها. وحسب "أنا يقض" وغيرها من المنظمّات الحقوقية، فشل سعيّد رغم إقرار تدابير استثنائية وجمع السلطات كلها بيديه وإرساء مشروعه الخاص وتطويعه كل الهياكل العمومية لخدمة هذا المشروع، وتعيينه بصفة مباشرة رئيسة الحكومة وأعضائها وتدخّله في اختيار أصحاب القرار بمختلف الهيئات والإدارات. وبذلك يظل غياب الرؤية وانعدام الكفاءة والقدرة على تغيير الواقع، ناهيك عن الاعتباطية والعشوائية من غلق مؤسّسات وفرض أخرى، مثل الشركات الأهلية والعجز عن فضّ الأزمات الطارئة والمستفحلة، وصولا إلى فشل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وفقدان المواد الغذائية. ويظل ذلك كله من أبرز المؤشّرات الواضحة في المشهد السياسي والاجتماعي العام في تونس.
بعد سنتين على إجراءات قيس سعيّد التي أصبحت معلومة، تواصل الحكومة فشلا بيّنا لتواجَه رئيسة الحكومة أستاذة التعليم العالي المختصة في علوم الجيولوجيا، نجلاء بودن وأعضاء حكومتها من الوزراء بنقد حادّ من التونسيين على المستوى الاتصالي والأداء الفاعل في تغيير معضلات الواقع. ويصف معارضو سعيّد والمهتمون بالشأن السياسي والعام حكومته بأنها "ظلت باهتة من دون شخصية ومن دون ملامح، كما بدا الارتباك على عمل أغلب وزرائها، إذ بدا أداؤهم محدودا ومهتزّا وغير فاعل في الواقع. وذلك بسبب الافتقار للخبرة والكفاءة بالنسبة لأغلبية أعضائها، حيث كان معيار تعيينهم الولاء وقرب أغلبهم من الرئيس بشكل مباشر، وبعضهم كان من أبناء المشروع المجالسي والبناء القاعدي ومشروعه".
والواقع أن ما يُقال عن الحكومة وأدائها فيه كثير من الواقعية والموضوعية فقد انصبّت مجهودات الحكومة باتجاه الإعداد لملف القرض والتفاوض مع صندوق النقد الدولي. ولم يسفر ذلك الجهد عن أية نتيجة تُذكر، رغم الوفود والزيارات واللقاءات لأكبر المسؤولين في الصندوق، كما فشلت حكومة بودن في الملف الاجتماعي، حيث أغلقت، منذ البداية، باب التفاوض والحوار مع الإتحاد العام التونسي للشغل، ومع أغلب النقابات وتعاملت بسياسة فرض الأمر الواقع، وهي السياسة التي يكرّسها رئيس الجمهورية قيس سعيد. ومع تعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، تواصل الحكومة تأبيد الصمت، وتكريس عدم القدرة على تقديم الإضافة. وتبعا لذلك، وبإجماع كل الملاحظين، تقتضي المرحلة الراهنة وجود شخصية اقتصادية على رأس الحكومة ذات كفاءة وخبرة في تسيير دواليب الدولة، ولربما يقتضي الأمر تغيير الحكومة برمتها بعد سنتين من العجز على تحقيق أي إنجازات.
مع تعمّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، تواصل الحكومة تأبيد الصمت، وتكريس عدم القدرة على تقديم الإضافة
في هذه السياقات الحزينة، وأمام الخطر الداهم لما يسمّى بالنظام المجالسي الذي يمضي في تكريسه وتأسيسه قيس سعيد أمرا واقعا، لا عودة إلى الوراء معه، كما يقول ويردّد. وأمام غياب الحد الأدنى من الإضاءات والمعطيات بشأن هذا النظام الغامض الذي سيحدّد مستقبل التونسيين وأبنائهم، يستحضر كاتب المقال بعضا مما صادفه في قراءاته بشأن النظام المجالسي، وخصوصا التوقف عند المفكّر السياسي كورنيليوس كاستورياديس، أهم مؤسّسي الفكر المجالسي منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وصاحب مجلة "اشتراكية أو بربرية" الذي ظلّ يندّد بالدكتاتورية وبالديمقراطية الليبرالية التي احتلّت المسرح السياسي، بعد كنس الفاشية والنازية، إذ يعتبر هذا المفكّر أحد العقول السياسية الهامة لما بعد الماركسية في القرن العشرين، لما كتبه مبكّرا عن أمراض المجتمع الديمقراطي وأمراض الديمقراطية الليبرالية وأمراض الديمقراطية الشعبية في الكتلة السوفييتية السابقة، معتبرا أن جميع الديمقراطيات فاسدة، داعيا إلى ديمقراطية مجالسية مسيّرة ذاتيا من الأطراف المحلية باتجاه المركز، فقد انتقد هذا المفكّر الانحرافات الماركسية، وكذلك الستالينية الجديدة، أو المتخفية التي تمارسها النخب الحاكمة، وتنبأ بسقوط الاتحاد السوفييتي، حين رآه يغرق في البيروقراطية، وفي سباق التسلح، مهملا الإنتاج والتنمية والعدالة والحريات. وقد استطاع، مع بداية ستينيات القرن الماضي، أن يجمع حوله تيارا من اليساريين الجدد، اتخذوا تسميات عدة، مثل "المجالسيون" الذين انتشروا في بلاد عديدة، منها لبنان وإيطاليا وفرنسا. ومثل "الجماهيريون" الذين ظهروا مع التجربة الليبية خلال الحكم الجماهيري للعقيد معمر القذافي، وكذلك تيار "الوسطيين" الذي انتشر في أميركا اللاتينية مما عرف بفلسفة الوسط العضوي التي ابتدعها أنطونيو غرامشي، صاحب نظرية المثقف العضوي. .. وكانت هذه التيارات وغيرها تبحث عن ديمقراطية بديلة من شأنها أن تتجاوز الديمقراطية البورجوازية ديمقراطية ما بعد الحرب الكونية الثانية، أو ديمقراطية ما كان يُعرف بالحرب الباردة.
وتأسيسا على هذه المعطيات، وبالعودة إلى مشروع قيس سعيّد المجالسي، تجدر الإشارة إلى ما ظهر مع هذا المشروع في تونس من مجموعاتٍ وأفراد أطلقت على نفسها "المفسرون" ... جابوا البلاد وانتشروا في أريافها وقراها داعين شبابا وشرائح شعبية في حلقاتٍ مباشرة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى انتخاب الرجل النظيف الذي جاء ليكشف سيئات الساسة وعبث من انقضّ على الثورة، ليقطف مغانمها من دون أن يشارك في صنع هذه الثورة. والمؤسف أن هذا الخطاب قد وجد طريقه إلى الواقع انتقاما من نخبة سياسية "تم ترويج عجزها وفسادها وأنانيتها". وتجدر الإشارة إلى أن كثيرين من أنصار قيس سعيّد من مستشاريه ووزرائه قد عُرفوا في سبعينيات القرن السابق وثمانينياته بانتماءاتهم اليسارية الحادّة خلال مرورهم بالجامعة التونسية، أو ما يسمى اليوم "الوطد".
أخيرا، يمكن الجزم بأن هذا النظام المجالسي الذي فشل عالميا خلال القرن الماضي يظلّ خارج السياق الثقافي والاجتماعي للشخصية القاعدية التونسية. ولذلك لا يختلف عاقلان على أن مشروع قيس سعيّد المجالسي القاعدي هلامي، قد يصلح لكائنات قادمة من كوكب آخر، ولكنها ليست هذه الكائنات التي تسكن الأرض التونسية الطيبة. والمؤسف أن يظل سؤال التونسيين قائما: إلى أين تمضي تونس المريضة، وهل هناك أمل في حدوث المعجزة؟