مهرجانات تونس الصيفية ورقصها على الجراح

21 يوليو 2024
+ الخط -

كشفت مهرجانات تونس الثقافية، الدولية الكبرى، لصائفة 2024 عن برامج عروضها، وفي مقدمة هذه المهرجانات قرطاج، الحمامات، الجم وغيرها. وأثارت العروض جدلاً حادّاً في الفضاء العام ووسائل الاتصال الاجتماعي وفي حلقات النخب والمتابعين، وصولاً إلى الجمهور العريض. وقد أثار هذا الجدل أسئلة عديدة عن مهرجانات تموّل برامجها من المال العام (وزارة الثقافة)، وكانت فلسفة إطلاق هذه المهرجانات، كما أرساها المؤسّسان الراحلان، الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي، ثقافية محضة، تصدُر عن وعي وطني بدور الثقافة في بناء الدولة الاجتماعية الفتية، وإعلاء مقوّماتها في الحفاظ على هوية الشخصية العربية الإسلامية لمجمل التونسيين، وصولاً إلى أهمية هذا الدور الثقافي في تعزيز قيم التحوّل الديمقراطي من مواطنة وعيش مشترك وتسامح وغيرها. وشمل هذا الجدل عدم اعتبار السياق الذي طبع تونس والوطن العربي والعالم منذ "طوفان الأقصى" في غزّة 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويرى هؤلاء المنتقدون واقع هذه المهرجانات من خلال برامجها انحرافاً واضحاً عن البعد التأسيسي الثقافي لها، بل لعل هذا البعد قد تبخّر واختفى، إذ واصلت هذه البرامج الجديدة تكريس أسماء وعروض لا ترتقي إلى مهرجاناتٍ دولية عريقة، عرفت شهرة واسعة، وحقّقت نجاحات مشهودة، وانطلقت من مسارحها قامات إبداعية تونسية وعربية ودولية. ويعيد هؤلاء المنتقدون هزال أغلب هذه البرامج وتفاهتها وبعدها عن التزام التونسيين وتضامنهم مع ما يحدُث في غزّة، إلى معضلة الإشراف الإداري أساساً، "فاللجان الثقافية" التي كانت مسؤولة عن تسيير هذه المهرجانات شهدت انحرافاتٍ وتجاوزاتٍ في السنوات الأخيرة، كما شكّلت الجمعيات التي بعثت إلى إدارة هذه المهرجانات في فترة لاحقة كذلك خيبة أمل كبيرة، لتعم الفوضى ويغيب الخيال الخلاق. وبذلك تتراجع العروض، أحياناً، إلى مناسبات فرجوية، يؤثّثها هواة وأشباه فنانين يرتعون على المسارح، ويجترون نجاحات غيرهم، ولا يتورّعون عن الاستعراض التهريجي الاستفزازي والتافه للجمهور الحاضر، بعيداً عن المعايير الفنية والثقافية والأخلاقية التي تحكُم ما يجب عرضه على مسرح قرطاج أو "الحمّامات" أو غيرهما.

غياب السياسات الثقافية في تونس أثر تأثيراً كبيراً على مجمل الفعاليات الثقافية الكبرى

وبعيداً عن تعميم قتامة هذا المشهد وتردّيه على مجمل مهرجانات تونس الصيفية 2024، فإن مهرجان قرطاج الدولي مثلاً الذي يتصدّر هذه المهرجانات، بصفته واحداً من خمسة مهرجانات عربية كبرى، فقد تجاوزت حملات انتقاد برامج دورته لهذه الصائفة الأبعاد الاقتصادية والثقافية، ولم تعد أجور بعض الفنانين العرب وغير العرب المرتفعة محلّ نقاشٍ في ظل أزمة مالية حادّة للبلاد لتوقف عند غياب المشاريع الفنية الجادّة التي كان يُقبل على إنتاجها هذا المهرجان العريق في دوراته الأولى ويفتتح بها دوراته. لقد تجاوزت الانتقادات ذلك كله لتّتسع دوائر الاستياء والرفض لبرمجة عروض ترفيهية خالية من المضامين والأهداف أمام استمرار العدوان الصهيوني على غزّة وأهلها وارتدادات ذلك العدوان على نفوس التونسيين الذين انتظروا برمجةً تتّسق مع التزام تضامنهم مع ما يحدُث لأشقائهم في غزّة وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويتوقّف التونسيون في لبنان، مثلاً، حيث ينتظم مهرجان بعلبك 2024 عبر برمجة وتصور يحملان الكثير من الرمزية، في ما اختار المشرفون على مهرجان بيت الدين تعليقه هذه الصائفة. كما جابه مهرجان موازين في المغرب، العائد بعد غياب ثلاث سنوات، حملات افتراضية لمقاطعته تحت شعار "لا ترقُصوا على جراحهم"، فيما تجاوز الشقيق الآخر لمهرجان قرطاج، مهرجان جرش في الأردن، جدل الأجور الخيالية والتساؤلات بشأن المادة الفنية المبرمجة ورمزيتها وعلاقتها بما يحدُث في غزّة، فضلاً عن أبعادها الثقافية. وعلى عكس قرطاج، حافظ "جرش"، المرتقب بعد أيام، على برنامجه الشعري، فيما غيّب ذاك الشعر والشعراء.

تكفي الإشارة إلى عروض افتتاح "قرطاج" 2024 و"الحمّامات" و"الجم" و"بوقرنين" وغيرها من مهرجانات صيف تونس 2024 لتعكس ضياع بوصلة مبرمجي هذه المهرجانات والمشرفين عليها، بعيداً عن تطلّعات جمهور التونسيين وتضامنهم مع أهل غزّة وعموم فلسطين، الذين يتعرضون منذ "طوفان الأقصى" إلى الاعتداءات المعلومة. وكذلك تطلعّاتهم إلى نتاجات إبداعية راقية ومتنوعة لا تكرّس طاحونة الشيء المعتاد وشهوة النزوع إلى الربح التجاري والانخراط في موجة التفاهة السائلة، فهذه العروض الافتتاحية جاءت كالتالي: "لطفي بوشناق" مع أبنائه في افتتاح قرطاج في عرض لمسيرته الغنائية، إعادة عرض مسرحية "عطيل" لحمادي الوهايبي في افتتاح مهرجان الحمّامات الدولي، مستبعداً المسرحية الحدث للفاضل الجعايبي "بعيداً عن البحر" مؤشّراً بذلك إلى عودة الرقابة إلى الساحة الثقافية. أما مهرجان الجم الدولي فقد اختار قصة حب غجرية ليفتتح بها دورته، إلى غير ذلك من عروض افتتاحيات هذه المهرجانات التي حلقت بعيداً عن عواطف التونسيين.

عروض ترفيهية خالية من المضامين والأهداف أمام استمرار العدوان الصهيوني على غزّة وأهلها

وتأسيساً على ما سبق، يمكن الجزم بأن غياب السياسات الثقافية في تونس أثر تأثيراً كبيراً على مجمل الفعاليات الثقافية الكبرى، إذ طفا الإرباك الثقافي ليشمل المهرجانات الكبرى، على غرار مهرجان قرطاج السينمائي ومعرض تونس الدولي للكتاب ومهرجان الأغنية التونسية، وصولاً إلى مهرجانات قرطاج والحمّامات والجم وبوقرنين وغيرها. يحدث هذا وقد أسّست تونس وأسهمت في المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية الذي عقدته اليونسكو بمكسيكو سنة 1982 والذي كان لحظة تاريخية فارقة في علاقة العالم، بلداناً وحكاماً وشعوباً، بأهمية الثقافة في حياة المجتمعات الإنسانية والتحوّلات التي تطرأ عليها وأهميتها في معالجة الاختلال الكبير في الموازين التنموية. كما أسهمت تونس، بصفة تأسيسية، في إعلان العقد العالمي للتنمية الثقافية (1988-1997) الذي سنّته المجموعة الدولية عبر الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو. واعتماداً على مخرجاته، جرى التركيز على قضيّتين مهمتين، إحداهما ضرورة إعادة صياغة السياسات الثقافية العامة للدول والحاجة إلى ابتكار معارف جديدة للربط بين الثقافة والتنمية. كما كانت تونس فاعلة في المؤتمر الدولي الحكومي للسياسات الثقافية من أجل التنمية المستدامة في استوكهولم سنة 1998. وانطلاقاً من هذه المرجعيات، شهدت تونس انتعاشة ثقافية مشهودة، شملت بعث المهرجانات وتأسيس الصناديق الداعمة للإبداع والمبدعين ورعاية أهل الثقافة والفن. ولكن هذا المد الثقافي توقّف في السنوات الأخيرة لتشهد وزارة الثقافة أضعف الميزانيات 0.7% من الميزانية العامة للحكومة، كما شهدت عدم استقرار وزرائها، وها هي حالياً بإشراف وزير بالنيابة.

ولمناسبة غياب السياسات الثقافية عامة في تونس، وعبر مهرجاناتها الدولية، يقفز سؤالٌ هام: لماذا الاستمرار في تمويل مهرجانات تراجع إشعاعها وتقلص دورها وانخرطت في الرقص على الجراح، في حين ألغت وزارة الثقافة مهرجاناتٍ كبرى شهدت دوراتها الأولى نجاحاتٍ، وتركت أثراً نوعيّاً لا يزال قائماً في المخيال الثقافي الجمعي، ومن هذه المهرجانات أيام قرطاج الثقافية للإبداع المهجري ومهرجان قرطاج الشعري وغيرهما.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي