"النمر الأسود" في السعودية

25 ابريل 2018
+ الخط -
ليست مصادفة عابرة أن تكون فاتحة أفلام أول دار عامة للسينما في السعودية فيلم "النمر الأسود" الأميركي الذي يروي لنا حكاية صنع ملك، كيف يؤهل الفارس المرشح القادم لتبوُّؤ كرسي العرش، وكيف يختبر في خضم أحداثٍ غالبا ما تبدو مصنوعةً بجدارة وإتقان، لكي تضفي هالة من السحر عليه، ولتطويع كاريزما له، تضمن حالة احتفاء واحتفال عند مواطنيه.
تدور أحداث الفيلم الذي شاهده السعوديون في مملكة واكاندا الأفريقية المتخيلة، والتي تعوم على بحيراتٍ من معدنٍ نفيس وعالي القيمة والتأثير، متخيل هو الآخر يقال له "فايبرانيوم"، وقد حققت هذه الدولة بفعل وجود هذا المعدن الذي نتج عن هبوط نيزكٍ على أرضها انتقالا تكنولوجيا مذهلا، جعلها تتحول إلى واحدة من جنان الله على الأرض، حيث المزارع الدائمة الخضرة، والمباني الناطحة للسحاب، والمركبات الفارهة الجذابة. ولأنها كذلك، فإن عيون قوى باحثة عن نفوذ تحط عليها وتخلق صراعات وحروبا داخلها ومن أجلها، شارك فيها مرتزقةٌ وجواسيس وعملاء سريون، استخدموا آخر ما ظهر من تقنيات الحروب والسلاح. وأوشكت تلك الحروب والصراعات أن تدفع مملكة واكاندا إلى الهاوية، لولا ظهور أميرها الشاب "تي تشالا" الذي نجح، بعد مطاردات ومناورات مذهلة، في القضاء على المرتزقة الذين حصلوا بطريقةٍ ما على كميات من معدن "الفايبرنيوم" النفيس من بلاده، وتاجروا بها، كما بارز منافسين عديدين، وانتصر عليهم، وأكل "قلب واكاندا" العشب الواهب للقدرات، وهذا ما جعله يمتلك قدراتٍ خارقةً وعقلا استراتيجيا متميزا، واستطاع أن يكون لاعبا ماهرا في المدار المحيط به، وقد أتقن لغاتٍ عدة، وبرع في استخدام أنواع السلاح. ولذلك أعطي لقب "النمر الأسود"، وأصبح جاهزا للجلوس على كرسي العرش.
 
هذا ما فهمناه من مشاهد مقتطعة من فيلم "النمر الأسود"، والذي ربما حمل الفيلم مشاهد وملامح أخرى سنحت الفرصة لجمهرة حضور العرض في الرياض من متابعتها والاستمتاع بها. وقد يتبادر إلى الذهن أن اختيار الفيلم في أول عرض للسينما في السعودية محاولة مقصودة للإيحاء بأن ثمّة ما هو مشترك بين البطل الخارق، أمير واكاندا تي تشالا، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. ولترسيخ فكرة أن الأمير المحمّل بالذهب يستطيع الوصول إلى أي مكان في العالم، وأنه القادر وحده على حل المشكلات التي تحيط ببلاده، وقيادة مشروع تحديثٍ غير مسبوق. وربما يكون محمد بن سلمان قد شاهد الفيلم من قبل، واستحسنه، إذ وجد فيه نفسه قائما قاعدا ومتناغما في قيامه وقعوده مع طموحاته وتطلعاته. ويدعم هذا الأمر ظنونا أن اختيار الفيلم ليس وليد مصادفة عابرة، ذلك أن محمد بن سلمان يقترب من كرسي المُلك خطوة خطوة، وقد لا تمر بضعة أسابيع، وربما أيام ليصل إلى القمة، بعدما نجح في القضاء على منافسيه، وأقام تحالفاتٍ مع شخصياتٍ دولية نافذةٍ وفاعلةٍ، أسند ظهره إليها، وقد استبق وصوله إلى العرش على المستوى الداخلي بجملة "منجزاتٍ" قدمها لمواطنيه في إطار ما وصفته أقلام غربية صديقة بأنه انفتاح مجتمعي واسع، أحد جوانبه هذا الاهتمام الملفت بالسينما والمسرح والفنون الأخرى، وإعطاء المرأة السعودية بعض ما حُرمت منه من حقوق في العقود الماضية، بما يؤهلها للعب دور أكبر في عملية بناء المجتمع وتطويره. يبقى أن ما يجعل هذه "المنجزات" تكتسب فاعليتها هو شرط تحققها في مناخ ديمقراطي حر، يقر بالخلاف والاختلاف، وباحترام حرية التعبير والنقد وحقوق الإنسان. وهذا لم يحصل بعد في السعودية، وما يرشح من أخبار ترصدها منظمات ومراكز دولية معنية بحقوق الإنسان يكشف عن انتهاكات صارخة: اعتقالات تعسفية لمعارضين، وتقييد حرية المعتقد والاحتجاج، وتقييد حرية الوصول إلى مواقع الإنترنت، والتدخل في الحياة الشخصية للمواطنين إلى آخر ما تتكتم عليه دوائر النظام وحلقاته الإعلامية.
وثمّة ما يبقى جديرا بالاهتمام في مستجدات مواقف الرياض من قضايا الساعة العربية والدولية، وفي بعضها من الطيش أكثر مما فيها من الحكمة، بخلاف المسار التقليدي الذي عرفت به الدبلوماسية السعودية زمان ملوكها الراحلين، لكن الأمل يظل معقودا على الأمير الشاب الطامح إلى العرش، لمراجعة وقائع ومواقف وتوجهات، والتفكير مرتين وثلاثا، قبل أن يصبح من الصعب تدارك ما فات.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"