أوروبا تتغيّر... العالم يتغيّر

19 يونيو 2024
+ الخط -

كشفت الهزّة الانتخابية اليمينية التي عصفت بأوروبا الأسبوع الفائت عن ملامح تغييرات وتحولات قادمة، قاتمة، قد تطيح منجزاتٍ اجتماعية واقتصادية كثيرة أنجزها الإنسان على مدى تاريخه الطويل. كما قد تشكّل، بحسب تقييم الرئيس البرازيلي إيناسيو لولا، خطراً فاعلاً على الديمقراطية، بسبب الذين لا يقيمون وزناً للمؤسّسات، مثل البرلمان وأجهزة القضاء.

والذي يزيد في هذا الخطر أن الذين عناهم لولا لا يقيمون في قوى اليمين، واليمين المتطرّف فحسب، إذ قد تجدهم قابعين بين قوى اليسار واليسار المتطرّف أيضاً. وقد عكست انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً هذه الحقيقة، بما يعني أن موجة "شعبوية" جديدة تتسم بطابع قومي عنصري وشمولي شرعت تجتاح العالم تذكّرنا بموجة صعود الفاشية في إيطاليا وفرنسا، والنازية في ألمانيا، بين الحربين العالميتين، وما نتج عنها من تغييراتٍ وتحوّلات وضعت العالم في حينها على كفّ عفريت.

وإذا كان ماركس قد أنذرنا بأن التاريخ يُعيد نفسه مرّة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة، فان ما يحدُث في أوروبا اليوم مهزلةٌ أهم ما فيها أنها كشفت عن فشل النخب اليسارية في إيجاد البدائل التي تحقّق طموحات الجمهور العريض، وأن "فائض القوة" الذي تحقّق لقوى اليمين قد لا يقف عند حدود أوروبا، وإنما قد يؤثر على بلدانٍ في قارّات أخرى، وقد يعمل على تغيير الخرائط على نحوٍ مختلف.

من بين الوقائع الإشكالية التي شكّلت، أخيراً، جرس إنذار لما يُحتمل أن يحدُث استحواذ التجمّع الوطني اليميني في فرنسا على ثلث أصوات الناخبين، إلى درجة أنه دفع الرئيس ماكرون إلى أن يحلّ الجمعية الوطنية، ويقرّر انتخاباتٍ تشريعيةً مبكّرة في مغامرةٍ غير محسوبة النتائج، لمواجهة "صعود للقوميين والديماغوجيين، ما يشكّل خطراً على فرنسا وأوروبا". ولم ينتظر اليمينيون نتائج الانتخابات، إنما رشّحوا جوردان بارديلا لرئاسة الوزراء. كذلك أعلن الرئيس السابق فرانسوا هولاند، هو الآخر، ترشيحَه أيضا. ودعا رئيس حزب الجمهورية ووريث الديغولية إيريك سبوتي إلى التحالف مع التجمّع الوطني اليميني المتطرّف الذي تتزعمه مارين لوبان، وقد استفزّت دعوته رفاقه في الحزب فقرّروا طرده. أما الحركات والأحزاب اليسارية فقد سعت إلى تجميع قواها في "جبهة شعبية"، إلا أن أطراف هذه الجبهة، على ما يبدو، لم يتفقوا على أفكار موحّدة، وبقي كل طرف يفكّر بمفرده.

 ما يحدُث في أوروبا اليوم مهزلةٌ أهم ما فيها أنها كشفت عن فشل النخب اليسارية في إيجاد البدائل التي تحقّق طموحات الجمهور العريض

وفي ألمانيا، احتل حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرّف المرتبة الثانية بعد المحافظين، ومن شأن هذا إضعاف مكانة اليمين المعتدل الذي يسعى إلى الحصول على الأولوية في أي انتخابات تشريعية قادمة. وما هو لافتٌ هنا أن حكومة أولاف شولتز الحالية شرعت في التوجّه نحو "عسكرة" ألمانيا بزيادة الإنفاق العسكري وتطوير قدراتها، وعينها على احتمال نشوب حرائق في غير ما مكان من العالم، تغذّيها أحداث أوكرانيا والشرق الأوسط.

ومن الوقائع الإشكالية أيضا ما تحقق في النمسا، حيث حاز حزب الحرية، اليميني المتطرّف الذي يتزعمه هربرت كيكل، على أصوات أزيد من الربع. وبشر كيكل مواطنيه بأن "حقبة سياسية جديدة قد بدأت في النمسا وفي أوروبا"، معلّقا أمله على فوز حزبه في الانتخابات التشريعية المقرّر إجراؤها في سبتمبر/ أيلول، وفي أجندته العمل على التمسّك بحياد النمسا، ووقف الدعم المقدّم لأوكرانيا من دول المجموعة الأوروبية. وفي إيطاليا، عزّزت الانتخابات الأوروبية مكانة "حزب إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف بزعامة رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، التي تعمل على تمكين حزبها من البقاء في السلطة.

عكست كل هذه الوقائع ملامح توجّه هو بمثابة نتاج لحالة القلق وعدم اليقين عند غالبية مواطني البلدان الأوروبية الذين يخامرهم شعور بأنهم وقعوا ضحية ظواهر لا يد لهم في صنعها، لكنها ألقت بظلالها على متطلّباتهم الحياتية، وعلى مجمل البنية الاجتماعية والاقتصادية في بلدانهم. ومن ذلك تصاعد ظاهرة العنصرية على خلفية الخوف مما يحمله المهاجرون القادمون من البلدان الإسلامية من تقاليد وعادات قد تتعارض مع القيم والتقاليد الاجتماعية الأوروبية، وكذلك ظواهر البطالة وعدم توفّر فرص العمل أمام الشباب وخرّيجي الجامعات، وعدم كفاية الناتج الوطني لإدامة الاقتصاد، وآثار الاحتباس الحراري.

والمهم بالنسبة لنا في كل هذه التداعيات ما يمكن أن تعكسه على بلداننا التي تعاني، هي الأخرى، من ظواهر قد تكون أكبر وأشدّ تأثيراً على مجتمعاتنا مما هو مطروح في أوروبا. وفي كل الأحوال، قد تعين قراءة واعية ومتأنية من أولي الأمر والجماعات السياسية عندنا ما يدور هناك على تلمّس مسارٍ يخدم ما نطمح له، وما نتطلع إليه.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"