أحمد الشرع في دمشق... وماذا بعد؟

01 يناير 2025
+ الخط -

لك أن تحبّه أو أن تكرهه، أن تتّفق معه أو أن تختلف. تلك مسألة خاصّة بك، وفي أيّ من الحالَين لن تستطيع أن تحجب عن أنظارك حقيقةَ أن شابّاً أربعينيّاً مطارداً من جهات ودول عديدة، ورأسه مطلوب في أكثر من مكان، ووضعت الولايات المتحدة عشرة ملايين دولار لمن يأتي به أو أن يقدّم معلومات تساعد على القبض عليه، أن هذا الشاب المعروف باسم أبو محمد الجولاني استطاع دخول دمشق في رأس فصيل "جهادي" يتكوّن من بضع مئات من الأفراد، ليقوّض نظاماً ديكتاتورياً وحشياً حكم سورية 54 عاماً فأذاق شعبها مرّ العذاب.
استغرقت رحلة الجولاني إلى دمشق 11 يوماً، منذ انطلاقته من مدينة إدلب، حيث كان يخوض تجربة بناء نواة دولة يريد أن تشمل التراب السوري كلّه، وهذا ما جعله يختلف مع زعماء أصوليين عمل معهم زمناً ثمّ اختار أن يفترق عنهم ليحقّق استقلاليته في التخطيط والقرار، والتنفيذ أيضاً، وقد استطاع بعد ذلك أن يقتنص "اللحظة التاريخية" الفاصلة في لعبة الأمم، التي برزت بعد تداعي "محور الممانعة"، وانكسار أذرع إيران، وهزيمة مشروعها الإمبراطوري، الذي كانت دمشق الأسد تمثّل أكثر معاقله أهميةً، وأخطرها بعد بغداد. وكان أن تدحرجت أمامه المدن السورية كما تتدحرج أحجار الدومينو، حتى وصل إلى دمشق.
وفي القصر الرئاسي، ظهر أحمد حسين الشرع (بعدما استعاد الجولاني اسمه الحقيقي)، وتخلّى عن اللباس الذي عُرِف به "الجهاديون"، ليرتدي "اللباس الإفرنجي"، وبدا حذراً متحفّظاً، ويتحدّث برصانة وهدوء مع محطّات التلفزيون، في محاولة منه لتكريس صورة "رجل الدولة" الذي يتعامل بدبلوماسية ومرونة، مركّزاً في نقاط عامّة من دون أن يلزم نفسه بشيء مُحدَّد وواضح عن صورة وشكل النظام الجديد، وليبتعد عن صورة الحاكم الفرد الذي يطمح لإقامة ديكتاتورية جديدة على أنقاض ما كان، مستغلاً النصر السريع الذي تحقّق له، هذا النصر الذي فتح المجال أمام عديد من متابعين ومحلّلين لأن يروا في الشرع صنيعةً لقوىً دوليةً وإقليميةً لها مطامع ومصالح في المنطقة، وفي سورية بالذات، وذهب بعضهم إلى حدّ رسم خريطة قال إن واشنطن وأنقرة وراءها، وآخرون ضربوا أخماساً بأسداس، وتوصّلوا إلى فرضية اتفاق روسي أميركي على اقتسام السيطرة على مناطق استراتيجية في العالم، وأعطوا روسيا أوكرانيا في مقابل ترك سورية لأميركا... إلى آخر ذلك.

مراجعة مجمل الوقائع التي حدثت منذ 8 ديسمبر (2024) توحي بأن دمشق مقبلة على دولة تحاكي "النموذج التركي" الماثل، وبرعاية تركية

وربّما تكون تلك التقديرات كلّها (أو بعضها) صحيحةً، لكن علينا ألّا ننسى قدرات الشرع الشخصية، واجتهاده، وتربيته الإسلامية العربية، وتجربته في قيادة فصيل معروف بالتزام أعضائه وانضباطهم، وقدرتهم على خوض معاركَ صعبةٍ وصولاً إلى ما يريدون تحقيقه. هذا كلّه سهّل عليه "امتطاء" اللحظة التاريخية، والوصول إلى دمشق من غير خسائر تذكر.
السؤال الآن: إلى أين يمكن أن تفضي رحلة الشرع؟ وماذا ينتظر السوريين في المستقبلين القريب والمتوسّط؟... نحتفظ هنا بتوجّسنا ممّا قد يحدث، إذ إن الاحتمالات كلّها واردة، وربّما يكون البريق الذي ظهر في ما طرحه الشرع خادعاً، خاصّة أن تقلّباته تظلّ موضع نظر، كما أن إشاراته أخيراً إلى أن عملية كتابة الدستور قد تستغرق ثلاث سنوات، وأن إجراء انتخابات قد يحتاج أربعاً، تزيد الشكوك حول نيّاته ومقاصده، وقد تثير ردّات فعل غير محسوبة، يبقى أن مراجعة مجمل الوقائع التي حدثت منذ الثامن من ديسمبر/ كانون الأول (2024) توحي بأن دمشق مقبلة على دولة تحاكي "النموذج التركي" الماثل، وبرعاية تركية. لنقل، دولة تقوم على المزج بين الإسلامي والمدني، وأن هذا المزج لن يأتي من فراغ، وإنما هو مطلوب داخلياً لضمان بيئة مستقرّة، ومجتمع يتوق إلى دولة مواطنة وحقوق حُرِم منها على مدى تاريخ طويل، ومطلوب خارجياً أيضاً لخلق معادلةٍ توفّق بين ما يريده اللاعبون الكبار، وأيضاً اللاعبون الإقليميون، الذين يبحث كلٌّ منهم عن مصالحه، وعن أمنه القومي، وهي المعادلة التي تُرضي طموحات الشرع نفسه في المرحلة الحاضرة على الأقلّ، وتبقيه اسماً علماً في سورية، وفي المنطقة، وشاغلاً موقعاً متقدّماً في سورية الجديدة، ربّما لأمد أطول.
تبقى مقالتنا هذه مُجرَّد قراءة من بعيد لا أكثر.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"