هل كان المسيح اشتراكياً؟
في أعياد الميلاد ورأس السنة يجتهد بعض دعاة اليسار في دول أميركا اللاتينية، التي عرفت تيّارات "اليسار الجديد"، في إثارة أسئلة وقضايا شائكة في محاولة للتوفيق بين المعطيات الاجتماعية والاقتصادية التي تقدّمها الأفكار الاشتراكية، وبين ما تطرحه الديانات السماوية من قيم وممارسات تصبّ في الاتجاه نفسه.
وهنا، في فنزويلا (حيث يقيم كاتب هذه السطور)، يدافع أنصار النظام عن فكرة وجود نقاط التقاء وتوافق بين المسيحية الكاثوليكية، التي يدين معظم الفنزويليين بها، والمشروع الاشتراكي الذي تتبنّاه الدولة، الذي أطلق عليه زعيم فنزويلا الراحل هوغو تشافيز تسميةَ "اشتراكية القرن الحادي والعشرين".
وفي مقدّمة من عرفوا بمساهماتهم في هذا المجال القسّ الراحل، الأب بادري أدولفو روهاس، الذي يسمّونه "القسّ الأحمر"، الذي لمع نجمه في أنحاء القارة اللاتينية لدعوته إلى "تحرير علم اللاهوت من القيود المصطنعة التي تتعارض مع جوهر الرسالات السماوية، وتكبّل الإنسان المعاصر في نحو غير عادل ولا سليم"، وهو التيّار الذي بدأ لدى الكاثوليك في أميركا اللاتينية بعد انعقاد المجلس البابوي في الفاتيكان قبل أكثر من ستة عقود، وما يقوله هذا التيّار أن مهمّة الأديان هو تحرير الناس اقتصادياً واجتماعياً وأيديولوجياً، ولذلك يتوجّب على المؤمنين من مختلف الأديان أن يشاركوا في نشاط وفاعلية في بناء مجتمعات متحرّرة من الفقر والجهل والمرض، والطريق إلى ذلك هو في تبنّي الفكر الاشتراكي الذي يكرّس هذه المهمّة.
وبالطبع، فإن رجال الكنيسة يرفضون هذا النوع من التحليل، ولذلك ظلّت العلاقة بين الدولة والكنيسة في الأقطار اللاتينية، خاصّة تلك التي أخذت بالاشتراكية، في طرفي نقيض، رغم تكرار الدعوة إلى تحقيق نوع من المصالحة بين الطرفَين، وهذا ما يظهر في خطاب بعض الكنائس في أعياد الميلاد كلّ عام، فيما يعارض آخرون دعوات كهذه على أساس أن رجال الدين ينبغي أن يبقوا على مسافة من لعبة السلطة وما تجرّه من عواقب على معتنقي الديانات أنفسهم، وكان تشافيز يدعو باستمرار إلى فتح نقاشات للتوعية بالعلاقة بين الاشتراكية والدين، معتبراً أن المسيحية هي اشتراكية في الأساس، وأنه "أسهل للجمل من أن يدخل خرم الإبرة من أن يدخل الغني ملكوت السماوات"، وتعرّض في إثر ذلك لغضب الفاتيكان، لكنّه ردّ بإصراره على "أن الدولة تحترم الكنيسة، وعلى الكنيسة أن تحترم الدولة"، واستفاد روهاس من مساحة العمل التي وفّرتها الدولة، ووجد المجال رحباً أمامه للقيام بنشاطات وفعّاليات ثقافية واجتماعية لترويج أفكار "لاهوت التحرّر".
وكانت حصيلة ذلك توسّع التيّار وانتشاره في دول أخرى مستلهماً تجربة فنزويلا، كما شهد تنوعاً في الأفكار والمناهج التي أدّت (فيما بعد) إلى ولادة تيّارات فرعية مثل اللاهوت الأنثوي الذي يهتم بقضايا النساء، ولاهوت البيئة. وبعد رحيل تشافيز سعى خليفته الرئيس الحالي نيكولاس مادورو للنأي بنفسه عن مواجهة الكنيسة، ممّا جعل أصوات أتباع تيّار التحرّر تخفت، وانحسر نشاطهم شيئاً فشيئاً حتى أصبح حضورهم باهتاً، وفي دوائر ضيّقة.
وقد قدّر للكاتب أن يكون شاهداً على ندوة نقاشية أقامها "بيت الخبز" في ولاية فالنسيا الفنزويلية، وأدارها روهاس نفسه، كان محورها سؤال: "هل كان السيد المسيح اشتراكياً حقّاً؟"، وقد أجاب روهاس أن الأمر يبدو كذلك، خاصّة أن المسيح الذي عاش في عصر العبودية والبداوة، استخدم في رسالته الروحية إلى العالم كلماتٍ وتعابيرَ كتلك التي استخدمها منظرو المادية الجدلية مثل "الأخوّة بين البشر" و"تحرير المضطهدين" و"إغاثة المحرومين"، واستشهد بآيات من العهد القديم تتضمّن المعاني نفسها: "روح الربّ عليَّ لأنه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأَشفي منكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين في الحرّية"، موضحاً أن هذا كلّه يعكس نقاط التقاء بين المسيحية ديناً سماوياً والمادّية التاريخية فكراً أرضياً، و"أن اشتراكية اليوم هي دعوة المسيح ولكن بلغة مجتمعنا، وهي السبيل للانتقال من مجتمع العوز والحرمان إلى مجتمع التكامل لكي نكون أكثر إنسانية".
واحتدّ النقاش عندما سخر أحدهم من طروحات "القسّ الأحمر" قائلاً له: "إنك تبدو منقسماً بين أن تكون رجل دين صالحاً، وبين أن تكون شيوعياً طالحاً"، لكنّ روهاس لم يردّ، واكتفى بإغلاق النقاش ودعوة الحاضرين إلى تناول "كعكة الله"، وليذكّرهم بأن عليهم في الندوة القادمة أن يكونوا اشتراكيين بالفعل، فيدفع كلٌّ منهم ثمنَ ما يأكله.