أزمة جديدة في العراق؟

12 يونيو 2024
+ الخط -

سألتُه: ما الذي يجري في العراق اليوم؟

جاءني صوتُه من بغداد متهدّجا ومتقطّعا كأنه خارج من نفق مغلق: هلّا تذكّرت المثل العراقي "شليلة وضايع راسها"؟ هكذا هي الحال عندنا، اللعبة الجيوسياسية التي ابتكرها لنا الأميركيون، وتشارك فيها معهم الإيرانيون بحكم الأمر الواقع، لم تنته بعد، رغم أننا تخطّينا العام العشرين منذ سقطت بلادنا تحت سنابك الأغراب. أصبح اللاعبون كُثرا، وكلٌّ يبحث عن ليلاه، والأزمات تتلاحق، والأزمة تلد أخرى، والمواطن المهموم بخبزه وأمنه واقعٌ في "حيص بيص"، ولا سبيل أمامه سوى اللطم في مواكب العزاء لعل "المهدي" يظهر فيقيم دولة العدل!

تكشف وقائع الحال الماثل طبيعة التعقيدات التي تداخلت فيما بينها إلى درجة أصبح فيها من الصعب على من هم في السلطة أو حتى على من هم على هامش المشهد أن يعملوا على تفكيك هذه التعقيدات، والعمل على تجاوز الأزمة من دون ضحايا من هذا الجانب أو ذاك، ومن دون تنازلاتٍ تقتنع كل الأطراف بتقديمها عن رضا وقبول بما ينجم عنها".

وقبل أن أعلق استطرد في الشرح: "ظهرت بوادر الأزمة الجديدة بعد أسابيع قليلة من استيزار حكومة محمد شيّاع السوداني التي جاءت نتيجة توافق إيراني- أميركي، وكذا توافق الأحزاب الشيعية مع المليشيات التي ضمنت لنفسها حصّة في تشكيلة المقاعد الوزارية، تجعلها شريكاً في اتخاذ القرار. وكانت هذه الأطراف تأمل أن يلتزم السوداني بالمنهاج الموضوع له، وينصرف إلى العمل على تحسين الخدمات العامة ومتطلبات الحياة اليومية للمواطن لا أكثر، إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية، أي كان يُراد من السوداني "تصريف الأعمال" فقط، لكن ما ظهر أنه بدأ، بعد انقضاء شهر العسل، يخرُج عن الخط المرسوم له، ويخطّط لتأسيس مشروعه الخاص الذي يضمن له ولاية ثانية. وزاد على ذلك في سعيه إلى استعادة مكانة العراق في البيت العربي بتشجيع أميركي، ما أشاع شعوراً لدى"وكلاء" إيران بأن هذا التوجّه سوف يأخذ من جرف إيران، ويقلّص هيمنتها على القرار العراقي. ولعب عامل آخر دوره في تطوّر الأزمة هو وقوف بعض المنابر الإعلامية مدفوعة الثمن وراء السوداني والسعي إلى إظهاره زعيماً شعبياً، على خلفية نزوله إلى الشارع ولقاءاته المواطنين، واعتماده طريقة "الهاتف المفتوح" لعرض مشكلاتهم. وهناك من وجدوا أنه يغمط حقهم في الزعامة التي يروْن أنفسهم مؤهلين لنيلها.

الأزمات تتلاحق، والأزمة تلد أخرى، والمواطن المهموم بخبزه وأمنه واقعٌ في "حيص بيص"

وجاءت الطامّة الكبرى بعد لقائه بالرئيس الأميركي جو بايدن، وتأكيده على توجّه حكومته إلى حصر السلاح بيد الدولة، على قاعدة أن "قرار السلم والحرب يجب أن يكون شأنا خاصا بالدولة". وإشارته إلى بقاء الوجود الأميركي بشكل أو بآخر، ورافق ذلك تأكيد واشنطن نفسها أنها لن تخرُج من العراق، وهو ما كانت إيران تريد العمل على إنهائه، حيث تشعر دائما أن الوجود الأميركي على مدى حجر منها يعني التأثير على نفوذها في العراق، وقد يحول دون استمرارها في الحصول على مغانم وامتيازات تدعم اقتصادها المخنوق بعقوبات الولايات المتحدة.

ومع اختلاط الأوراق إثر تصاعد حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وجدت طهران الفرصة سانحة لدفع المليشيات للعب دور أكبر في مواجهة أميركا على أرض العراق، مع الاحتفاظ ببقائها في الظل، والزعم أنها لا تتدخّل في خطط المليشيات وفي توجّهاتها، وهذا ما أقرّه اجتماع قادة المليشيات الطارئ في طهران الذي انعقد مع مراسم عزاء الرئيس ابراهيم رئيسي. وبمجرّد عودة القادة إلى بغداد، أطلقت المليشيات حملة هجمات على مصالح تجارية أميركية وبريطانية، وزعمت أن ذلك يجري دعماً لفلسطين في مواجهة حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة، وهو ما أقلق حكومة السوداني، ودفعها إلى اعتقال بعض منفذي تلك الهجمات.

إلى هنا، والأزمة لم تنته فصولاً، إذ طلبت طهران من السوداني إطلاق سراح من اعتُقل، ووصل على وجه السرعة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، إسماعيل قاآني، لنقل الطلب، كما أعطت المليشيات مهلة للسوداني للاستجابة، مهدّدة بتصعيد هجماتها، فيما دعم الأميركيون إجراءات الحكومة، وطالبوا بمعاقبة منفّذي الهجمات.

هنا دخلت الأزمة الجديدة في عنق الزجاجة، ولا أحد يُفصح عما جرى ويجري، فذاك الذي يتكلم لا يعرف، كما يقول أصدقاؤنا الصينيون، وذاك الذي يعرف لا يتكلّم.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"