السودان.. أزمة اقتصادية وبحث عن مخرج

25 فبراير 2018
+ الخط -
في غضون الأزمة الاقتصادية التي تهدد الدولة بالإفلاس في السودان، وفي أثناء التحديات المتواصلة للمعارضة السياسية، وقوامها الأحزاب المعارضة التي تدخل، أول مرة، في مواجهة صريحة مع السلطة السياسية في الخرطوم، وفي غمرة التظاهرات المتحدية والجرأة الشعبية غير المسبوقة في مواجهة الحكومة، أعلنت الرئاسة في السودان فجأة عن تغيير غريب، لا علاقة له مطلقا بالأحداث والتظاهرات، ولا الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة، وإنما تغيير في رئاسة جهاز الأمن. فقد أصدر الرئيس عمر البشير قرارا أقال مدير جهاز الأمن، محمد عطا، واستبدله بالمدير القديم الجديد صلاح عبدالله قوش، ليصبح مديرا لجهاز الأمن والمخابرات في السودان. والغريب أن هذا التعديل، على الرغم من أنه أبعد ما يكون عن الارتباط بتفاصيل الأزمة المالية، إلا أنه أثار ضجة كبرى، وتناولته الأقلام من صحف حكومية وصحف معارضة، بل احتل صدارة الأحداث وصار مثارا للتكهنات بشأن أسبابه ومدلولاته. وأكثر التعليقات أكدت على أن التعيين "مقدمة لتغييرات كبيرة يتوقع حدوثها خلال الأيام المقبلة، في محاولة من النظام للخروج من الأزمة التي يعيشها". أضف إلى ذلك ما يراه بعضهم من إشارات مؤكدة على أن القرار يمثل "عودة للقبضة الأمنية إلى عهدها الأول".
على أن المؤكد أن القرار كان مثار دهشة واستغراب كبيرين، فلو طاول التغيير وزير المالية أو الاقتصاد لفسر الأمر بأنه خطوة على الطريق الصحيح، للبحث عن مخرج من الأزمة، 
خصوصا وأن الأجراس قد قرعت بالفعل بأن السودان على حافة الإفلاس. وبدلا من أن تشرح حقيقة الوضع الحرج للمواطنين، التزمت الحكومة الصمت، وتركت الأمور نهبا للاجتهادات من كل نوع. ولا أحد يمكنه الادعاء بأنه يفهم حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي في السودان. وبالقدر نفسه، يصعب التكهن بحقيقة التغيير الأمني ودوافعه، فالحكومة كأنما تنفذ قانون "الأوميرتا"، وتلوذ بالصمت التام، وتترك الشعب نهبا للاجتهادات. ويبدو أن لا أحد في الحكومة يعير اهتماما للتظاهرات التي خرجت في مدن السودان، بدافع الغلاء الذي خرج عن قدرة المواطن. ويثير هذا التجاهل مع الغموض حالة من الغضب المكتوم بين قطاعات الشعب المختلفة، والتي تشعر بالتهميش والتجاهل الرسمي لمعاناة الشعب، إن لم نقل إنكارها ووضعها في خانة المؤامرات الخارجية على الدولة. على أن الوضع الاقتصادي وموازنة الدولة الغامضة تثير قلق كثيرين، ولعل أفضل توصيف لحال الموازنة السودانية للعام الحالي 2018 ما كتبه الاقتصادي السوداني، التيجاني الطيب إبراهيم، إنها من حيث المضمون "أشبه بتغريدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المثيرة للجدل، لبعدها عن جوهر القضايا والتحديات والأرقام والإحصاءات المقدمة". ويزيد "للأسف، موازنة العام 2018 بعيدة عن القراءة الصحيحة لواقع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتحدياتها"، ويتخوف كثيرون من الغموض والخطوات الحكومية التي تتخذ في الشأن الاقتصادي، والتي تفاجئ السودانيين، في كل يوم، بخطواتٍ خارج ما تعلنه الحكومة نفسها من سياسات اقتصادية. ومن ذلك رفعها سعر صرف الواردات، بعد فترة وجيزة من إجازة الموازنة، من 9 إلى 18 جنيها للدولار، ما يعني مباشرة مزيدا من الغلاء والمعاناة. وحتى إجراءات الحكومة تجاه "تجار العملة الصعبة" في السوق الموازية، والتي صوّرت أنها خطوة للسيطرة على تراجع سعر صرف الجنيه أمام الدولار، بينما الحقيقة أن ارتفاع سعر الدولار يرجع إلى ضعف الإنتاج وتراجع صادرات السودان. وارتباطا بذلك، يشكل التراجع الاقتصادي الكبير والمستمر في مختلف القطاعات ملامح الأزمة والعجز الذي تعاني منه الدولة. بل إن بعضهم يوجه أصابع اللوم صراحة للحكومة في سياساتها القديمة الجديدة، والتي تعتمد على غسل الأموال القادمة من الخارج، بحجة توفير العملات الصعبة. وتؤثر هذه السياسة الخطرة على سعر الدولار في السوق المحلية، فينخفض متى تدفقت الأموال المغسولة إلى داخل السودان، ويتراجع الجنيه على إثر خروج الأموال بعد غسلها، وهي سياسة مغامرة، والمدهش أنها تجد من يدافع عنها بسذاجة من بعض الاقتصاديين من داخل الحكومة.
بصورة أخرى، يلف الغموض الشديد المشهد المالي والاقتصادي في السودان، وإن كانت هذه عادة متأصلة في النظم الشمولية، فهي لا تحب تمليك المعلومة للشعب، وتحتكر كراسي السلطة وتتداولها بين قلة محدودة. ولهذا، ليس المدهش صمت الحكومة، وإنما الإيحاء بأن في تغيير 
رئيس جهاز الأمن تحسينا للوضع الاقتصادي. والأرجح أن التغيير بإعادة صلاح قوش إلى مكانه القديم هو عجز سابقه عن التعامل بصورةٍ تحول دون انفجار الشارع، وتحول التململ الحادث إلى ثورة حقيقية قد تطيح النظام. وربما يجد هذا الأمر تفسيره في الخطوات التي سيلجأ إليها قوش، من حيث إحداث بعض التحولات في سياسات جهاز الأمن، تتسم بالانفراج وتغيير بعض من سياسات سلفه، وتوحي بتغير في توجهات الدولة فيما يتعلق بملفات الحريات ووقف الاعتقالات، وبعض الانفراج في الرقابة على الصحافة، وغير ذلك من سياسات جديدة، هدفها الرئيسي مخاطبة الخارج، وبعث رسائل خاصة تجاه الإدارة الأميركية بأن ثمة تغيرا في الوضع السياسي. بمعنى آخر، انتهاج سياسة جديدة تستجيب لمطلوبات الحكومة الأميركية، ما يفتح الباب أمام رفع حقيقي للعقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة على السودان. والأرجح أن الحكومة السودانية تعول على هذا الجانب، ملاذا أخيرا في تعطيل حالة الانهيار الاقتصادي في السودان.
ويبدو أن الحكومة السودانية باتت تدرك سوء الوضع الإقليمي المنغمس في مشكلاته الخاصة، ومعاناة الدول الخليجية التي تعول عليها الخرطوم من مصاعب اقتصادية. وهذا ما يفسر سياسات الحكومة السودانية تجاه مصر التي اتسمت بتغير إيجابي ملحوظ، بإدراك أنهما معا تواجهان محنة ووضعا اقتصاديا صعبا، يتطلب على الأقل نوعا من الهدنة، والبحث عن أفق للتعاون بما يفيد البلدين. على أن الحال الاقتصادي السيئ في السودان يجعل أجراس الخطر تقرع في كل اتجاه.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.