الجيش السوداني والحرب المُدمِّرة

31 مايو 2024
+ الخط -

شاعت مقولةٌ في الأوساط العسكرية في أميركا الجنوبية، وتفشّت هناك في سنوات الديكتاتوريات العسكرية، إنّ أعلى رتبة في الجيش رئاسة الجمهورية. مقولة حملت تجسيداً دقيقاً ومعبّراً عن طموحات العسكر وقتها في القارّة التي ابتليت بأنظمة عسكرية اشتهرت بوحشيتها في مواجهة خصومها. لا يختلف الأمر كثيراً في السودان إلا في أنّهم يأتون محمولين على أكتاف مدنيّة لسدّة الحكم. ومن ثمّ، تبدأ لعبة سودانية خالصة، وهي انقلاب العسكر على الظهير المدني وإقصاؤه. ويُحمَدُ لإعلامي نابِه، أجرى مقابلة توثيقية مع زعيم الحركة الإسلامية في السودان، حسن الترابي، وقوفه عند نقطة بالغة الأهمية، إذ أكّد الترابي عدم معرفته العميد عمر البشير، ولا الضبّاط الآخرين أعضاء المجلس العسكري. وهذا بالغ الخطورة من زاوية أنّه يقود الدولة بقضيضها نحو المجهول. ولا يبعد ما يجري في السودان، اليوم، كثيراً عن هذه الفكرة المُدمّرة، وما تحمله من كوارث للسودان. إذ اعتمدت الحكومة الأولى للإسلاميين، بعد أشهر من الانقلاب، صيغةً استندت إلى إحلال جيوش من المدنيين (قُدّروا بثلاثة آلاف) من أعضاء الحركة الإسلامية موضع الثقة، فأصبحوا نواة الجيش الجديد، إضافة إلى ضبّاط الحركة الموجودين، أصلاً، في الجيش، ومعهم الضبّاط من منتسبي جهاز الأمن والشرطة، وحتَّى ضبّاط السجون. وتزامناً معها، نفّذت خطوة مماثلة في جهاز الحكم المدني، واستُغنِيَ عن الملايين، الذين تشرّدوا، من العاملين في جهاز الدولة، فيما عرف بـ"الصالح العام"؛ وهو إعفاء من الخدمة من دون مُستحقّاتها، ومن دون رواتب، وهي اللحظة التي أعلنت رسمياً انهيار الخدمة المدنية في السودان.

وطبعت ظاهرة لافتة خطاب قيادات الحركة الإسلامية، ثلاثة عقود من الحكم، وعادت مجدّداً مع الحرب الحالية. أي حالة مُفرطة من الوهم والتهويم في عوالم أبعد ما تكون من الواقع، فثمّة إحساس عام تجسدّه الأقوال إنّ ما يفعلونه دوماً هو عين الصواب، وأنّ السودان جنّة الله على الأرض، ولذا، هو محسودٌ من الغرب الطامع في خيراته، ويتبارى العالم في وضع العراقيل أمام منجزات الإسلاميين في السودان حسداً وغيرة. وهذا ضربٌ من الكلام الساكت، كما يسمّيه أهل السودان، أي الكلام المرسل بلا عمل. على أنّ أكثر هذه الأوهام والتهويمات إثارةً للجدل ما ظلّ يصدُر عن العسكريين الذين تولّوا الحكم بعد ثورة ديسمبر (2019)، بوضع اليد، وبقيادة الفريق عبد الفتّاح البرهان. من ذلك، حالة الطبيب بابكر عبد الحميد، الذي قُتل بطلق ناري. فخرج رئيس جهاز الأمن ليؤكّد أنّه قتل بواسطة طبيبة (لاحظ طبيبة تقتل طبيباً) حملت بندقية في حقيبة يدها؟ وفي كلّ مرّة يُقتل فيها جمع من الشباب، يخرج البرهان، وغيره من القيادات العسكرية، ليؤكّدوا براءة الأجهزة من قتل المتظاهرين، وتعلّق جرائم القتل على "الطرف الثالث"؛ المجهول.

من أعجب ما في حرب السودان أنّ قائد الجيش عبد الفتّاح البرهان يختار الحديث عن الحرب، وخططه، والقرارات الهامّة، في مجالس العزاء

تدخُل الحرب عامها الثاني، وسط استهداف ظاهر من الطرفين البنيات التحتية، والأسواق والمصانع والمستشفيات، واحتلال منازل المواطنين، وتشريد الملايين نزوحاً في داخل السودان وخارجه. ومعلوم، أيضاً، أنّ الجيش، واتخاذ القرار فيه، تركّزا في يد أربعة أشخاص بقيادة البرهان، ونوّابه الثلاثة، وهم من تبقّى من اللجنة الأمنية، التي عيّنها الرئيس السابق عمر البشير. وطوال فترة الحرب، لم يسمع أحد بمشاركة قيادات أخرى من الجيش، ولا يعرف أحد من يتولّى قيادة معارك الجيش، ولا توجد أيّ جهة تحكم العمل العسكري وتضبطه، وتُخضِع العسكر لسلطتها. بكلمة أدقّ؛ لا توجد حكومة أو أيّ جهة تحاسب وتردع، وكلمتها مسموعة، ولا يطاول صفوف قيادة الجيش، والحال هكذا، ما هو معروف عند المعارك الكبرى والهزائم والإخفاقات، من محاسبة وإقالات وتبديل للقيادات، بل من أعجب ما في حرب السودان أنّ قائد الجيش عبد الفتّاح البرهان يختار الحديث عن الحرب، وخططه، والقرارات الهامّة، في مجالس العزاء فقط. من ذلك أخيراً، في مجلس عزاء الضابط السابق محمد صدّيق، إذ أعلن أنّ الجيش أصبح يشكّل ربع القوات المقاتلة، وتشكّل المليشيات والمستنفرون الجزء الأعظم، وهو حديث أثار الجدل لخطورته، من حيث المكان والتوقيت، كما أثار القلق العميق بشأن قدرة الجيش على الاستمرار في الحرب، إذ إنّ، وبحديث قائد الجيش، أعداد مقاتلي القوات المسلّحة السودانية في تناقص خطير.

وشخصية أخرى على رأس قيادة الجيش؛ الفريق ياسر العطا، نائب البرهان. يصرّح، أخيراً، بما يؤكّد علناً منح روسيا قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وفق اتّفاق سيوقّعه البرهان قريباً، مقابل تزويد الجيش السوداني بالسلاح والعتاد، ووضع ذلك في خانة تبادل المنافع، هو يفتح الباب أمام اتفاقاتٍ مشابهة مع أميركا أو السعودية أو مصر، إن أرادت (في المكان مُتّسع). وأخيراً، يعتذّر العطا، باسم الجيش، للشعب: "نعتذر للشعب السوداني عن أيّ تقصير، ونتحمّل ما يحدث بكلّ مسؤولية، ما عاوزين نقول الحرب لعبة بلاي ستيشن، بس الشعب يصبر علينا". وهو حديثٌ غير مسبوق، ليس في مستوى السودان، وإنّما ربّما في تاريخ الجيوش. وقناعتي أنّ الجيش، اليوم، لا يعرف ماذا يريد، ولا يوجد من يسأله عما يفعل، ولماذا؟... ولهذا، تبدو الحرب مستمرّة، وكما قال البرهان، أخيراً، لقد بدأت لتوّها.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.