30 أكتوبر 2024
رياح الخماسين في الربيع السوداني
يشهد السودان، منذ نحو أسبوع، احتجاجات عارمة واجهتها السلطة بقمع عنيف، أدى إلى سقوط ضحايا. كانت البداية بسبب رفع أسعار الخبز ومواد أساسية. وسرعان ما اتسعت الاحتجاجات، لتشمل أكثر من مدينة، وضمت إلى صفوفها أحزابا ومنظمات نقابية، فارتفع سقف المطالب التي كانت اجتماعية، في البداية، لتتحول إلى شعاراتٍ سياسيةٍ تطالب برحيل النظام القائم الذي يحاول استعادة السيطرة على الوضع.
ويبدو من المرجح أن تتسع الحركة الاحتجاجية مع اتساع رقعتها ووصولها إلى العاصمة الخرطوم، والتحاق أحزاب المعارضة والمنظمات السياسية بصفوفها. وفي مواجهة هذا الوضع المتأزم، لجأت السلطة إلى سياسة العصا والجزرة، لاحتواء بوادر "ثورة خبز" ليست الأولى من نوعها التي يشهدها السودان في تاريخه المعاصر.
ويكاد ما نشهده الآن يكون تكرارا لسيناريو ثورات "الربيع العربي" التي بدأت باحتجاجات صغيرة في مدن هامشية خرج سكانها يطالبون بتوفير أبسط حقوق الحياة الكريمة، وسرعان ما كبرت، مثل كرة ثلج، حتى عمّت دولها وأسقطت أنظمتها. ففي مثل هذا الشهر من عام 2010، بدأ "الربيع العربي" في تونس، باحتجاجات معزولة في مدينة سيدي بوزيد المهمّشة. وبعد أسبوعين من القمع الذي أدى إلى سقوط ضحايا، عمّت شرارة الثورة كامل التراب التونسي، حتى وصلت إلى العاصمة تونس، ما اضطر رأس النظام إلى الهرب. وما أشبه الحالة السودانية اليوم بالحالة التونسية، عشية اندلاع ثورتها الشعبية. حالة اجتماعية مزرية، ووضع اقتصادي متأزم، وانسداد سياسي بسبب حالة الجمود الناتجة عن استمرار النظام نفسه عدة سنوات، مع كل المشكلات والأزمات التي أحدثها. ومع ذلك، ما زال يطمح إلى تغيير الدستور، لاستمرار بقائه إلى ما لا نهاية!
وتدفعنا المقارنة بين الحالتين، التونسية عام 2011 والسودانية حاليا، إلى التساؤل عمّا إذا كنا فعلا أمام موجة "ربيع عربي" جديد، ستهب رياحه هذه المرة من الجنوب. وكان السودان في ذلك العام من بين دول عربية قليلة خرجت معافاةً من ثورات الشعوب في تلك السنة، فقد نجح النظام السوداني آنذاك، من خلال اللجوء إلى الاستعمال المفرط للقوة، في قمع التظاهرات الشعبية في المدن السودانية، وأسفر قمعه عن مقتل العشرات، والتفّ على مطالب الشارع بطرح مبادراتٍ، من قبيل الدعوة إلى حوار وطني، شاركت فيه أحزاب المعارضة، انطلق عام 2014 وانتهى ثلاث سنوات بعد ذلك. وفي السنة الرابعة، سيكتشف فقراء السودان أن لا شيء تغير في حياتهم اليومية التي جاءت الزيادات في أسعار مواد استهلاكية رئيسية، أخيرا، لتثقل كاهلهم.
كل ما فعله نظام عمر البشير طوال السنوات الماضية هو محاولاته ربح الوقت، وهو ما يسعى اليوم إلى فعله في وعوده بالإصلاح. لقد تحول هذا النظام إلى جزء من المشكلة، ولا يمكن أن يكون طرفا في الحل، فهو الذي أذكى نار الحرب الأهلية التي أدت إلى انفصال الجنوب، وفتح جبهة حرب داخلية في إقليم دارفور، فُرضت بسببها على البلاد عقوبات أنهكت اقتصادها. وعلى الرغم من كل الأزمات التي تسبب فيها النظام لبلاده، ظلت الجماهير السودانية صامتة، تاركة الفرصة للنظام لإيجاد حلول لمشكلاته، وبعد نحو ثلاثة عقود من وجوده، تحوّل النظام نفسه إلى جزء من الأزمة في البلاد.
يوجد نظام البشير اليوم في موقف لا يحسد عليه، فهو أحرق كل أوراقه، وباتت مصداقيته ووعوده الداخلية في الحضيض، بعد فشله في الوفاء بالسابق بها، وكل محاولاته اليوم لإعادة السيطرة على الوضع لن تنجح سوى باللجوء إلى استعمال مزيدٍ من القوة في وجه المتظاهرين، وهو ما يعني توقع سقوط مزيد من الضحايا.
ثمّة من يسمي ما يحدث في السودان انتفاضة، وقليلون من يجرؤون على وصفه بالثورة، فالتعاطي مع الحالة السودانية أحدثت نوعا من الارتباك لدى عديدين من أنصار "الربيع العربي"، ربما بسبب المواقف المتضاربة للبشير الذي عرف دائما، منذ حرب الخليج الأولى، كيف يلعب على جميع الحبال لإنقاذ نظامه، فهو اليوم، مثلا، مع التحالف العسكري السعودي الإماراتي الذي دمر اليمن وشرّد شعبه، وفي الوقت نفسه، مع سورية بشار الأسد الذي قتل ربع مليون من مواطنيه وشرد ستة ملايين. ويعتبر البشير مشاركته في حرب اليمن "واجبا مقدسا وأخلاقيا"، وعند ذهابه إلى دمشق التي سعت السعودية والإمارات إلى إطاحة النظام فيها، يصف سورية جبهة مواجهة، ويقول إن إضعافها إضعافٌ للقضايا العربية! يعقد تحالفات استراتيجية مع تركيا الأردوغانية، ويساند دمشق الأسد، ويطبّع مع نظام عبد الفتاح السيسي، ويرسل جيوشه إلى السعودية والإمارات للقتال في اليمن، وينتظر مساعدات قطر، ويتودّد إلى أميركا ويقوي علاقاته مع إيران.. وفي الحصيلة، ما يهم البشير حماية نظامه واستمراره، على الرغم من كل الأخطاء التي ارتكبها في ثلاثة عقود، عمر حكمه الذي بات أقدم نظام في أفريقيا. من لا يريد أن يؤيد انتفاضة الجياع في السودان عليه أيضا أن لا يدعم النظام الذي يعتبره متظاهرون كثيرون سببا في الأوضاع التي أدت إلى تظاهرهم، فالشعب السوداني الذي كان سباقا في تعليم الشعوب العربية فن الانتفاضات سيكون مدينا لنا عندما نحترم حقه في تقرير مصيره.
ما يحدث اليوم في السودان هو استمرار للغضب نفسه الذي ظل ثاويا داخل المجتمع السوداني، وهو تأكيد صارخ على أن رياح "الربيع العربي" الذي اعتقد كثيرون أنه انتهى ما زالت تهب، وهذه المرّة جاءت تحملها "رياح الخماسين"، وهي لمن لا يعرفها حارّة وجافة!
ويكاد ما نشهده الآن يكون تكرارا لسيناريو ثورات "الربيع العربي" التي بدأت باحتجاجات صغيرة في مدن هامشية خرج سكانها يطالبون بتوفير أبسط حقوق الحياة الكريمة، وسرعان ما كبرت، مثل كرة ثلج، حتى عمّت دولها وأسقطت أنظمتها. ففي مثل هذا الشهر من عام 2010، بدأ "الربيع العربي" في تونس، باحتجاجات معزولة في مدينة سيدي بوزيد المهمّشة. وبعد أسبوعين من القمع الذي أدى إلى سقوط ضحايا، عمّت شرارة الثورة كامل التراب التونسي، حتى وصلت إلى العاصمة تونس، ما اضطر رأس النظام إلى الهرب. وما أشبه الحالة السودانية اليوم بالحالة التونسية، عشية اندلاع ثورتها الشعبية. حالة اجتماعية مزرية، ووضع اقتصادي متأزم، وانسداد سياسي بسبب حالة الجمود الناتجة عن استمرار النظام نفسه عدة سنوات، مع كل المشكلات والأزمات التي أحدثها. ومع ذلك، ما زال يطمح إلى تغيير الدستور، لاستمرار بقائه إلى ما لا نهاية!
وتدفعنا المقارنة بين الحالتين، التونسية عام 2011 والسودانية حاليا، إلى التساؤل عمّا إذا كنا فعلا أمام موجة "ربيع عربي" جديد، ستهب رياحه هذه المرة من الجنوب. وكان السودان في ذلك العام من بين دول عربية قليلة خرجت معافاةً من ثورات الشعوب في تلك السنة، فقد نجح النظام السوداني آنذاك، من خلال اللجوء إلى الاستعمال المفرط للقوة، في قمع التظاهرات الشعبية في المدن السودانية، وأسفر قمعه عن مقتل العشرات، والتفّ على مطالب الشارع بطرح مبادراتٍ، من قبيل الدعوة إلى حوار وطني، شاركت فيه أحزاب المعارضة، انطلق عام 2014 وانتهى ثلاث سنوات بعد ذلك. وفي السنة الرابعة، سيكتشف فقراء السودان أن لا شيء تغير في حياتهم اليومية التي جاءت الزيادات في أسعار مواد استهلاكية رئيسية، أخيرا، لتثقل كاهلهم.
كل ما فعله نظام عمر البشير طوال السنوات الماضية هو محاولاته ربح الوقت، وهو ما يسعى اليوم إلى فعله في وعوده بالإصلاح. لقد تحول هذا النظام إلى جزء من المشكلة، ولا يمكن أن يكون طرفا في الحل، فهو الذي أذكى نار الحرب الأهلية التي أدت إلى انفصال الجنوب، وفتح جبهة حرب داخلية في إقليم دارفور، فُرضت بسببها على البلاد عقوبات أنهكت اقتصادها. وعلى الرغم من كل الأزمات التي تسبب فيها النظام لبلاده، ظلت الجماهير السودانية صامتة، تاركة الفرصة للنظام لإيجاد حلول لمشكلاته، وبعد نحو ثلاثة عقود من وجوده، تحوّل النظام نفسه إلى جزء من الأزمة في البلاد.
يوجد نظام البشير اليوم في موقف لا يحسد عليه، فهو أحرق كل أوراقه، وباتت مصداقيته ووعوده الداخلية في الحضيض، بعد فشله في الوفاء بالسابق بها، وكل محاولاته اليوم لإعادة السيطرة على الوضع لن تنجح سوى باللجوء إلى استعمال مزيدٍ من القوة في وجه المتظاهرين، وهو ما يعني توقع سقوط مزيد من الضحايا.
ثمّة من يسمي ما يحدث في السودان انتفاضة، وقليلون من يجرؤون على وصفه بالثورة، فالتعاطي مع الحالة السودانية أحدثت نوعا من الارتباك لدى عديدين من أنصار "الربيع العربي"، ربما بسبب المواقف المتضاربة للبشير الذي عرف دائما، منذ حرب الخليج الأولى، كيف يلعب على جميع الحبال لإنقاذ نظامه، فهو اليوم، مثلا، مع التحالف العسكري السعودي الإماراتي الذي دمر اليمن وشرّد شعبه، وفي الوقت نفسه، مع سورية بشار الأسد الذي قتل ربع مليون من مواطنيه وشرد ستة ملايين. ويعتبر البشير مشاركته في حرب اليمن "واجبا مقدسا وأخلاقيا"، وعند ذهابه إلى دمشق التي سعت السعودية والإمارات إلى إطاحة النظام فيها، يصف سورية جبهة مواجهة، ويقول إن إضعافها إضعافٌ للقضايا العربية! يعقد تحالفات استراتيجية مع تركيا الأردوغانية، ويساند دمشق الأسد، ويطبّع مع نظام عبد الفتاح السيسي، ويرسل جيوشه إلى السعودية والإمارات للقتال في اليمن، وينتظر مساعدات قطر، ويتودّد إلى أميركا ويقوي علاقاته مع إيران.. وفي الحصيلة، ما يهم البشير حماية نظامه واستمراره، على الرغم من كل الأخطاء التي ارتكبها في ثلاثة عقود، عمر حكمه الذي بات أقدم نظام في أفريقيا. من لا يريد أن يؤيد انتفاضة الجياع في السودان عليه أيضا أن لا يدعم النظام الذي يعتبره متظاهرون كثيرون سببا في الأوضاع التي أدت إلى تظاهرهم، فالشعب السوداني الذي كان سباقا في تعليم الشعوب العربية فن الانتفاضات سيكون مدينا لنا عندما نحترم حقه في تقرير مصيره.
ما يحدث اليوم في السودان هو استمرار للغضب نفسه الذي ظل ثاويا داخل المجتمع السوداني، وهو تأكيد صارخ على أن رياح "الربيع العربي" الذي اعتقد كثيرون أنه انتهى ما زالت تهب، وهذه المرّة جاءت تحملها "رياح الخماسين"، وهي لمن لا يعرفها حارّة وجافة!