تونس.. معضلة الخطاب في الإعلام

06 أكتوبر 2018
+ الخط -
الخطاب عند محمد عابد الجابري نص، يقول: "النص رسالةٌ من الكاتب إلى القارئ فهو خطاب، فالاتصال بين الكاتب والقارئ إنما يتم عبر الكلام، فكما أن المعنى الذي تحمله الإشارة الصوتية من إنتاج المتكلم والسامع، فكذلك المعنى الذي يحمله النص، فهو من إنتاج الكاتب والقارئ وهذا خطاب". ويذهب محمد أركون إلى اعتبار الخطاب في عموم معناه "من أفعال المعرفة". ويعتبر الباحث الجزائري في الإعلام والاتصال، رشيد سبتي، أن للخطاب، في لغة الإعلام والاتصال، ثلاثة مستويات: التذوقي الفني الجمالي، ويستعمل في الأدب والفن. والعلمي النظري التجريدي، ويستعمل في العلوم. والعملي الاجتماعي العادي، ويستخدم في الصحافة والإعلام بصفة عامة. ولكل وسيلةٍ خصائصها ومميزاتها.
ويجمع علماء اللغة على أن لغة الإعلام أحد مستويات اللغة العربية المعاصرة، وفرضت نفسها، بمرور الوقت، على مجالات الكتابة الأخرى كافة، علمية أو أدبية. ومن الخصائص الأساسية العامة للخطاب الإعلامي، بإجماع منظّري علم الخطاب وتحليل الخطاب، الوضوح والمعاصرة والملاءمة والجاذبية والاختصار والمرونة والاتساع والقابلية للتطور.
عندما تنظر من خلال هذا المدخل النظري إلى الفضاء الإعلامي والاتصالي في تونس، رصدا لخطابٍ معين، لا تقف على مفهوم لهذا الخطاب، وبالتالي لخصائصه، ففي حين حافظت وسائل الإعلام المكتوبة على خطابٍ أهم مقوماته لغةٌ عربيةٌ أقرب ما يمكن إلى الفصحى، وبالتالي هي أسمى لغات الخطاب الإعلامي، انزلقت وسائل الإعلام الأخرى، من إذاعاتٍ مسموعةٍ عمومية وخاصة وقنوات تلفزيونية، ومواقع وصحف إلكترونية، إلى متاهات الفوضى اللغوية، تحكمها لهجاتٌ محكيةٌ بآلاف الألفاظ والتراكيب التي لا تعرف لها واضعا، ولا صانعا.
عادة ما يلجأ مقدّمو هذه البرامج والمواد إلى الدخيل والترجمة الفورية لمصطلحاتٍ ومفرداتٍ 
من لغاتٍ أجنبيةٍ، الفرنسية بالدرجة الأولى، ثم الإنكليزية، من دون التمكّن من تلك اللغات، مع ضعفٍ فادح في العربية. وبذلك تصل المعلومة إلى المتلقي ضمن تعبير ركيك، وأسلوب ضعيف، ورسالةٍ عصيّة على الفهم. وقد ذهبت دراسة جادّة نشرتها أخيرا المجلة المتخصصة لمعهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس إلى أن أغلب وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في تونس، والتي ظهرت بعد الثورة، أصبحت تشكّل خطرا حادّا على اللغة العربية، فهي إذاعاتٌ وتلفزاتٌ تتفشّى فيها الأخطاء الشائعة، والانحرافات المعرفية واللغوية التي أصبح أثرها واضحا على الجمهور المتلقي للمواد والبرامج التي تبثها. وترد الدراسة أسباب هذه الظاهرة الخطيرة إلى عوامل عديدة، منها السعي إلى إرضاء المعلنين، وبالتالي إيصال المادة الإعلانية إلى الشرائح العريضة من الجمهور، اعتبارا لما تدرّه تلك المواد الإشهارية من مال، علاوة على غياب سياسةٍ لغويةٍ لهذه القنوات، وكذلك للمؤسسات الرسمية التعديلية للمشهد الإعلامي، وفي مقدمتها الهيئة الوطنية التعديلية لمشهد الإعلام والاتصال (الهايكا).
والملاحظ أن النشرات الإخبارية في القناة العمومية التونسية (القناة الأولى) أصبحت جزرا معزولة، حافظت فيها هذه النشرات على خطاب واضح، ولغة فصحى بمقومات سليمة. أما بقية البرامج والمواد فتبقى مجالا للضجيج والتجاذبات التي لا يستقيم فيها كلام، ولا تقدّم فيها رسالة معرفية أو سياسية، ناهيك عن خطاب اتصالي واضح المعالم والمقوّمات.
ويرد خبراء ومختصون أسباب ظاهرة هذا الخطاب الهجين في المشهد الإعلامي والاتصالي التونسي وأزمته إلى باقي الأزمات التي يعيش على وقعها المجتمع التونسي بعد الثورة، حيث انتشرت الفوضى، وتكاثرت الملل السياسية والحزبية. ومن أسباب ذلك بروز خطاب إعلامي بلغة هجينة، لا هي عربية فصحى، ولا دارجة محكية، ولا فرنسية، بل هي مزيج من كل شيء، ولا شيء عنوانه الأبرز المسخ والتشويه. ويتم هذا كله باعتقاد حرية التعبير وباسم الديمقراطية. وتبدو الدوائر الرسمية، من مؤسساتٍ تربويةٍ وثقافيةٍ ونقاباتٍ في مختلف القطاعات ذات الصلة، غافلة عن هذه المسألة التي أصبحت معضلة، بل هناك من يذهب إلى أن هذه المؤسّسات تساهم في تغذيتها بإرادة سياسية، مباشرة أو غير مباشرة، لتصبح هذه المعضلة واقعا معيشا، لا أحد يسعى إلى معالجتها، ولتدفع الأجيال التونسية في المستقبل ثمنا باهظا إزاء تخلي الآباء والأجداد عن أداء واجبهم الوطني والحضاري تجاه لغتهم، قوام هويتهم وشخصيتهم العربية الإسلامية.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي