الحفيد

04 يناير 2017
+ الخط -
دعيتُ للاحتفال بمرور أسبوعٍ على مولد أول حفيدٍ لصديقةٍ حميمة. وعندما كانت تخبرني، بصوت مفعم بالفرح، أنه أول حفيد لها، وعليّ الحضور مهما كان الطقس سيئاً، جالت بخاطري أحداث الفيلم الأشهر، والذي يعتبر من روائع السينما المصرية الكلاسيكية "الحفيد". وبمجرد أن دلفت من باب منزلها، حيث أقامت الحفل، رأيت أجواء الفيلم حاضرةً تماماً، فالأم شابة جميلة، وتدور بالمولود بعد أن وضعته في ما يشبه القفص الصغير المزيّن بالورود وقماش "التل" الأزرق، أما الصغار فقد كانوا يسرحون ويمرحون وهم يضعون "الطراطير" فوق رؤوسهم، ويحملون الشموع ويردّدون في حبور: حلقاتك برجلاتك.
توقعت، مع هذا المشهد، أن يطلّ علي وجه كريمة مختار الصبوح التي أدت دور الأم التي تصبح جدّة للمرة الأولى، ولكن وجه صديقتي أطلَّ مهللاً ومرحباً، وإن حاولت، بلا توفيق، أن تخفي إرهاقها وألمها، وأسرّت لي وهي تحتضنني سعيدةً بتلبية الدعوة أنها متضايقة، لأن زوجها الذي أصبح لديه حفيد للمرة الأولى قد طبع قبلةً سريعةً على جبين ابنته، ولم يلق نظرة على المولود وفرّ من المكان، وأردفت من بين أسنانها: لا يستطيع أن يستغني عن الدردشة مع فتيات "فيسبوك" ونسائه...
أصبت بعدوى الإحباط منها، وجلست على أول مقعد صادفني، وكنت أتخيل زوجها يقوم بدور الفنان عبد المنعم مدبولي في الفيلم، أي دور الأب الموظف البسيط، فيقترض ويستدين، ويدور معها على محالّ الحلوى والشموع والعطارة وباعة الدجاج البلدي، ليجهز مستلزمات الولادة لابنته الأولى. وعلى الرغم من أن المجتمع لا يزال محافظاً على عادةٍ مرهقةٍ، هي أن تكلفة ولادة الطفل الأول للابنة تلقى على عاتق أهلها، إضافة إلى تكاليف هذا الاحتفال، "السبوع" كما يطلق عليه بين العامّة، ولكن زوج صديقتي لم يقم بهذا الدور، وترك كل شيء للزوجة، وغادر الاحتفال، بل ولم يشارك بقية العائلة التحضيرات ومباهج الفرحة بقدوم أول حفيدٍ. وهكذا ظلت العائلة العربية متمسكةً بتقليد قديم، فيما أصاب التفكك صميم علاقاتها الاجتماعية في مقتل، فشتان بين ترابط العائلة في سبعينيات القرن الماضي، أي الزمن الذي دارت فيه أحداث الفيلم، وهذه الأيام، فبعد أن رحّبت صديقتي بضيوفٍ آخرين قدموا تباعاً، عادت لتجلس إلى جواري في إنهاك، وهمست: يرى زوجي نفسه شاباً صغيراً، يبحث عن فتاة أحلامه عبر هذا البحر الأزرق، تخيّلي أنه زجرني، حين ناديته فرحةً بلقب "بابا جدّو".
ربتّ على كفها المرتعشة فسحبتها، وغادرت لتنهر زمرة من الأطفال. بدأت تلقي أغلفة الحلوى على الأرض، فتبعتها بنظري وتنهّدت، وأنا أتمنى أن تبقى قوية، فهي موظفة، ولديها راتبها الذي تنفقه على البيت بكامله، وتهتم بلباسها وشعرها وماكياجها، أما زوجها فقد ورّط نفسه بقروضٍ بنكية التهمت راتبه، حين قرّر أن يفتتح مشروعاً لتربية أسماك الزينة، أملاً في زيادة دخله.
على الجانب الآخر، لاحت مني التفاتةٌ للابنة الثانية لصديقتي، والتي تزوجت حديثاً، وظهرت بوادر حملٍ جديد عليها، وتوقعت أن يدخل الفنان نور الشريف في تلك اللحظة، لكي يصالحها، حيث كان غاضباً من قرار حملها من دون علمه، فهو يرى أن الأطفال فكرةٌ مؤجلةٌ، وعليه الاستمتاع بحياة الحرية والانطلاق، ولكن وجه "نور" لم يظهر، وإن بدت نظراتها معلقةً نحو الباب، وكأنها تنتظر قادماً مهماً، وبعد لحظاتٍ رأيتها تهرع نحو امرأة مسنة وتحتضنها. وهنا، جاءت صديقتي لترحب بها، وعلمت أنها والدة زوج الابنة، وأن زوجها الشاب قد قرّر الهجرة إلى بلد أوروبي، بحثاً عن فرصة عملٍ، وترك زوجته حاملاً في شهرها الأول، على وعدٍ منه أن تلحق به، حين تتيسر أموره.
حان وقت وضع المولود في "الغربال"، فانتبه الحاضرون، وتوقفت امرأتان منزويتان عن النميمة التي كانتا تمارسانها طوال الوقت، ليستمعن إلى دقات الهاون وترديد الأوامر على مسامع الصغير، وضحكنا كثيراً من صديقتي التي أصبحت جدّةً للمرة الأولى، وهي تطلب من السيدة التي تدق الهاون ألا تلقي للصغير أمراً بسماع كلام جدّه لأمه حين يكبر...
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.