عن المجزرة في مواصي خانيونس
الطفل الذي عثروا عليه مُضرّجاً بدمه، وفي فمه بقايا طعام، وإلى جواره ملعقة صدئة، كان قد استبطأ عودة أبيه من السوق، وقد ذهب ليبيع بعض خبز رقيق صنعته زوجته مع ساعات الفجر فوق نار الحطب، وطلبت منه أن يذهب لبيعه في السوق القريب، ويعود ببضع حبّات من البندورة لتعدّ طعاماً للأطفال. وحين تأخّر الأب اقترب الطفل من صفيحة بها بعض فتات الخبز المغمور بالحليب، حصلوا عليه مساعدةً من مؤسّسة إغاثية قريبة من مخيّم نزوحهم. وبعد أن أذابت الأم الحليب الذي كان على هيئة بودرة بقليل من الماء الساخن، ألقت به بعض فتات الخبز اليابس وتركته لكي يصبح طرياً قليلاً، وطلبت من طفلها ألا يقترب منه حتى يعود الأب، ولكن الطفل البائس قرصه الجوع بشدّة، فاختلس بطرف الملعقة قليلاً من الفتات، ولكنه لم يُكمل ازدراده.
الأم التي استبطأت زوجها ومشت نحو السوق بحثاً عنه لأن الأطفال جوعى، وخاصة الابن الأصغر، وتخشى ألا تناله ولو ملعقتان من الفتات المغمّس بالحليب، عثروا عليها على قارعة الطريق المؤدّي إلى "شارع النُّصّ"، ولم يكونوا يعرفون أن زوجها كان مُلقىً على مقربة منها، ووجهه كان ميمّناً باتجاهها، وفرحةٌ ترقص في قلبه بعد أن اشترى حبّات من البندورة، وتبقّت معه قروش قليلة أيضاً.
الطفل الآخر الذي حمل دلو الماء بعد أن لكزه والدُه بذراعه مراراً، وطلب منه أن يتوجّه ليأخذ دوره في طابور الماء، بالقرب من محطّة تحلية المياه، وكان يحاول أن يطرد نعاساً سيطر على خلايا مخّه الذي أصبح يشكو من قلّة الغذاء، ولم يعُد قادراً على تنبيه ذلك الكائن الصغير وتنشيطه. ولذلك يتثاءب باستمرار، وتقع الأشياء من بين يديه، ويؤنّبه والدُه كثيراً لأنه أسقط دلو الماء عدّة مرات، وهو في طريق عودته إلى الخيمة قادماً من المحطّة القريبة من "شارع النص". ولكن الأب، هذه المرّة، لم يؤنّبه إلا على تأخّره، لأنّه لم يعد أبداً، ولا يوجد هناك أيّ احتمال لكي يعود، فقد استغرق الأمر طويلاً وهم يجمعون أشلاءه من المكان، ولكنهم عثروا أولاً على ذراعٍ نحيلةٍ تقبض كفّها على دلوٍ صغيرٍ فارغ.
أمّا الفتاة التي غافلت والديها العجوزين، وقرّرت أن تتجه صوب السوق الشعبي المكتظّ، لتبيع هاتفها النقّال، والذي ابتاعته قبل الحرب بأيام، وكانت تتباهى بجودته العالية، لم تصل إلى السوق، رغم أنها كانت تركض بأقصى سرعة، وهي تأمل أن تتعثّر ببائع جائل يضع أمامه عربة صغيرة، ويرصّ فوقها بعض أجهزة الهواتف الجديدة والقديمة. كانت تحدّث نفسها بأنها سوف ترضى بأيّ ثمن يعرضه عليها، فالمهم أن تُعطي أمّها بعض النقود لتشتري طعاماً ومستلزمات طبّية لوالدها المُقعد، ولكن الفتاة لم تعدْ، ولم يعثروا إلا على هاتفها النقّال الذي دلّهم على اسمها، وكان اسمها بالمصادفة "حياة".
سائق سيارة الإسعاف التي كانت تقف على ناصية "شارع النص"، وكان يجلس على مقعده أمام المقود، فيما يسرَح بخياله نحو بيته المدمّر في بلدة بيت حانون، شمال القطاع، ويتخيّل أن كلّ شيء سينتهي وسيعود ليبني بيتاً من جديد، وفيما كان يُلقي نظرة نحو أولاده في الخيام، اصطدم نظرُه بكتلةٍ رهيبةٍ من النيران، فحاول أن يتحرّك بسيارته لكي يسعف من يسمع صراخهم، ولكن الموت بنيران الحقد لاحقه ووأد الحلم والفكرة في قلبه ورأسه.
كان كل هؤلاء يريدون حياة، وليس أكثر من حياة، في أكثر بقاع الأرض بؤساً وكثافة سكانية، وحيث راجت كذبة بأنها منطقة آمنة، ولجأ إليها هؤلاء بحثاً عن أمانٍ ونجاة، حتى في خيام مهترئة، وشمس لاسعة، وماء شحيح، وطعام قليل، إلا أن الكذبة سرعان ما انجلت وأصبح الموت يلاحقهم ولا يجدون مفرّاً منه. وسطّر تاريخ المحرقة رقماً جديداً لمجزرة اسمها "مجزرة شارع النُّصّ"، ذلك الشارع الذي يفصل مدينة خانيونس المدمّرة عن شاطئ بحرها، وحيث ما زال هناك موتٌ يتربّص بين أنقاض حياة.