نداء الموت في غزّة
طالما أسهبتُ في القراءة عن قانون الجذب، وأصبحتُ أتعامل وفقاً لما توصّلت إليه من فهم لهذا القانون العجيب، وذلك في حياتي اليومية، محاولةً نشر بعض التفاؤل فيها، في ظل أحوال غزّة القاتمة دائماً. ولذلك كنتُ دائماً أحاول أن أتوقّع الأفضل، وأحثّ من حولي على ذلك، وأستشهد بقصص وحوادث مرّت بآخرين أمثلةً على أن الإنسان أسير توقّعاته، حتى جاءت الحرب الراهنة، وتمثّلت أمامي أمثلة كثيرة على أن "اللّي بيخاف من العفريت بيطلع له" فعلاً.
إحدى هذه الحوادث عن طفل في العاشرة، ومنذ كان طفلاً كنت أسمع والده المُسنّ يعبّر عن خوفه من أن يرحل عن الدنيا تاركاً هذا الطفل بلا سندٍ ولا ظهر، فقد أنجبته زوجته بعد أن تأخّر إنجابهما سنوات طويلة، وبعد أن بلغا من الكبر عتياً، إلا أن القدر شاء أن يهبهما هذا الطفل ليزيّن حياتهما، فسخّرا كل ما يملكان لتربيته وتوفير كل متطلّباته، ولم تتوقّف أمّه أيضاً عن البوح للمقرّبات منها عن خوفها من أن ترحل عن الدنيا تاركة طفلها الوحيد بلا أم. وهكذا تربّى الصغير حتى أصبح في العاشرة من عمره بين فرحة وخوف، حتى جاءت الحرب وقُصف بيتهم الصغير، وتُوفي الوالدان على الفور، وظلّ الطفل في المستشفى في حالة صحّيةٍ متوسّطة. ورغم تأكيد الأطباء أنه سيتجاوز إصابته ويشفى، إلا أنه مات فجأة. ورغم أن كل مؤشّراته الحيوية كانت تنبئ بأنه بخير، ولم يتردّد المقرّبون من ترديد أن هناك نداءً خفيّاً من الأبوين، لكي يلحق بهما هذا الصغير خوفاً عليه من مصير بائسٍ في حياة من دونهما.
وفي حادثة أخرى، اشتكى الأب من ابنه المراهق الذي لا يكفّ عن التسبب بمشكلاتٍ مع الأقارب والأصدقاء والجيران، حتى إنه لم يكتفِ بذلك، بل إنه يشاكس حيوانات الحيّ، فيلاحق الكلاب ويشدّ أذيال القطط، ويتفنّن في تعذيب تلك الكائنات اللطيفة. وكثر الشاكون الطارقون باب البيت، فذلك يشكو للأب من الابن الذي ضرب ابنه، أو آخر قد أتلف ابنه إطار سيارته. وهكذا كان هذا الأب يضيق ذرعاً بأفعال (وحماقات) الفتى الذي لم يفلح معه تأنيب ولا تهذيب، حتى بات لسان الأب لا يتوقّف عن الدعاء بأن يموت هو وابنه في يوم واحد، لأنه يخشى أن يتركه خلفه ليكون مجلبة للهموم لإخوته بسبب أفعاله الشائنة، وتحقّقت أمنية الأب في الأيام الأولى من الحرب، فقد قُصف البيت في المخيّم، ونجا كل أفراد العائلة، ومات الأب وابنه المشاكس فقط، وعلى هيئةٍ لا يمكن أن تُنسى، حيث كان الابن يضع رأسه بين ركبتي والده، وكأنه يعتذر له عن كل ما بدر منه طوال عمره الذي انتهى باكراً.
أما خوفي من أين يتحقّق قانون الجذب الكوني كما يطلق عليه، وهو نظرية انتشرت بعد انتشار كتاب السر للمؤلفة الأسترالية "روندا بايرن"، ويحتمل هذا القانون تأييد عدد من الناس ومعارضة من آخرين، فقد ازداد في هذه الأيام بشدّة حين صرّح لي أب بائس أصبح اليوم فقيراً معدماً يعيش في خيمة مع أطفاله وزوجته بعد نزوحه من مدينة غزّة إلى مدينة دير البلح في وسط القطاع، وقد كان هذا الأب من كبار التجار في غزّة، حتى فقد كل شيء، وأصبح يعمل بائعاً جائلاً يخرج في الصباح من خيمته ليبيع بعض البضائع البخسة، حتى يعود في المساء بقروش قليلة لعائلته، فقد قال لي إنه يتمنّى كل ليلة حين يعود متعباً، ويُلقي بجسده المتعب فوق رمال الخيمة أن تقصف خيمته ليموت مع عائلته، وإنه يتخيّل كيف ستشتعل النيران بالخيمة، وإنهم جميعاً سيتحوّلون إلى أشلاء، وسينتهي كل شيء بسرعة، لأنه لم يعد يحتمل حياة الذلّ بعد أن كان عزيزاً، ولا حياة الجوع له ولأطفاله.
يحلم هذا الأب كل ليلة، ويرى بأمّ عينه هذه النهاية البشعة، بل ويتمنّاها، وكل صباح أسارع لأتصفح الأخبار، بحثاً عن خبر قصف خيمة للنازحين أعرف موقعها جيّداً، حسبما وصفه لي ذلك البائس بكل دقّة.