عودة "عوليس" الفلسطيني

11 يناير 2017

جثمان كبوتشي في روما (5/1/2017/Getty)

+ الخط -
بعد 38 عاماً، يعود "عوليس" الفلسطيني من منفاه، ليصل إلى مقربةٍ من "إيثاكا"، لكنه لا يتمكّن من دخولها، لأن شذاذ آفاق كمنوا فيها، واغتصبوا زرعها وضرعها، واضطهدوا أبناءها. يعود رمزاً روحياً وحسب، جسداً ملفوفاً بعلم فلسطين التي أحبها، وأخلص لها. وقد أراد العودة من قبل، ولم يرغب في الإقامة في أرضٍ غيرها، لكن أعداءه ظلوا يمنعونه عنها، ويمنعونها عنه، جرّب العودة في عام 2009، لكنه فشل، سافر على متن سفينةٍ من لبنان قرّبته من هدفه، وصل إلى شواطئ غزة، اعتقله الإسرائيليون، وأعادوه من حيث أتى، لم يتراجع، جرّب، مرة أخرى في العام التالي، مبحراً في سفينة الحرية من الشواطئ التركية، وأوشك أن يصل إلى هدفه، حط على شواطئ غزة، حيث عاود الإسرائيليون اعتقاله، وأعادوه ثانية إلى منفاه.
هو اليوم، وبعد 38 عاما من النفي، وبعدما سكنته الراحة الأبدية، يعود على الرغم من أنوف أعدائه، ليرقد في سلامٍ على مقربة، يغشاه حزنٌ عميق على فلسطين مغتصبة جريحة، يريدها حرة، وعلى عالم عربي مقطع الأوصال، يريده سيدا موحدا.
"عوليس" عصرنا الذي لم يطمع بأكثر من الوصول إلى "إيثاكا" هو المطران الحلبي الفلسطيني هيلاريون كبوتشي الذي حكم عليه الإسرائيليون بالسجن 12 عاماً، قضى منها أربع سنوات قبل أن يتوسط بابا الفاتيكان لاستبدال السجن بالنفي، وذلك لصلته بالمقاومة، ومشاركته في نقل السلاح إليها، "هل يريدونني أن لا أقاومهم وقد غزوا بلادي واحتلوها؟". من منفاه، ظل كبوتشي مطراناً للقدس، ووصف ذلك بأنه إجراء قسري ومؤقت، وسيعود يوماً إلى مقر مطرانيته في فلسطين التي سكنت قلبه: "أريد فلسطين، خيمة على حدود فلسطين، ولا أي مكان في العالم. إنني أعيش هنا (في روما)، ولكنني أقضي ليلي ونهاري في القدس. أصلي هنا، وكأنني أصلي هناك". كانت فلسطين خياره الوحيد. كان يبدو وكأنه ممسوسٌ بها، لا شيء يقرّبه من العالم أكثر من فلسطين، ولا شيء يبعده عن العالم أكثر منها. رفض عروضاً شتى للإقامة في بلاد الله، بعد أن طردته إسرائيل.
التقيته لماماً، بحكم وجودنا المشترك في روما في ثمانينيات القرن الراحل، هو منفياً بقرار إسرائيلي، وأنا في عملي الدبلوماسي. وكنت أحرص، في كل مرة ألتقيه، أن أتعلم منه، فقد كنت أرى فيه واعداً بـ "لاهوت تحرير" عربي، يضم رجال دين مسيحيين ومسلمين، يلتزمون بخيار الانخراط في الكفاح من أجل تحرير بلدانهم ووحدتها. ووجدت في كبوتشي شبهاً بعلماء لاهوت أميركا اللاتينية الذين وهبوا حياتهم لقضايا بلدانهم العادلة. كان يبدو لي أن لا شيء يقلق وجوده في المنفى بقدر بعده عن فلسطين. وكنت ألحظ عليه كلما رأيته أنه يعيش وداعةً التأمل بما يشبه الانغماس في حلم، التأمل في مسيحيته، التأمل في "إيثاكا" الفلسطينية، والتأمل في عروبته. أحياناً كنت أريد ممازحته: " تبدو عاشقا لفلسطين كما محمود درويش"، يرد بحكم قاطع: "كلنا عشاق فلسطين، من لا يعشق فلسطين من العرب لا يصحّ أن نقول إنه عربي". كان عربي الوجه والقلب واللسان، يتذكّر أنه مذ أنشد "بلاد العرب أوطاني" وهو طفلٌ اعتنق العروبة واعتنقته، وتربى على الاعتصام بها والانتصار لها، وهو يجد في وحدة العرب وتحرير فلسطين وجهين لعملةٍ واحدة، وكان يرى في الخلافات الطارئة بين الأنظمة العربية تقويضاً لخيار الوحدة وهزيمةً له، ولم يجد ضيراً في نقد مواقف وسياسات لدى هذا النظام أو ذاك، يراها معرقلة لهذا الهدف.
كانت حرب العراق وإيران في أوجها، عندما سألته مرة عمن سيكون المنتصر. أجاب: "كلا البلدين خاسران، لكن الخاسر الأكبر فلسطين وكل العالم العربي". وفي مناسبة أخرى، وكانت تقارير متواترة عن وساطات وتسويات تنهي الحرب، قال بعفوية: "الصلح خير"، وكرّرها ثلاث مرات.
يؤاخذه بعضهم بموقفه من نظام بلده سورية الذي يبدو لهم ملتبسا، لكنه في واقع الأمر ليس كذلك، إذ جاء منسجماً مع قناعاته في أن كل شيء ينبغي أن يضيق لمصلحة القضية الوطنية الأكبر فلسطين. وما يثير الأسى أنه يرحل اليوم وأمتنا منقسمة على نفسها، تتناهبها الأهواء والمطامع الشريرة التي لا تترك لنا سوى كوة أملٍ صغيرة في أن نعاود النهوض. وليته ظل معنا، لكي يعيننا على ذلك، ويمنحنا بعض بركته.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"