السياسي والدَّعَوِي.. من التلكؤ إلى التمتمة

09 يونيو 2016
+ الخط -
أثيرت ضجّة إعلامية بمناسبة انعقاد المؤتمر العاشر لحزب النهضة في تونس، حيث تَمَّ الإعلان عن مراجعاتٍ مهمةٍ سيتداول فيها المؤتمِرون، وينتظر أن تنتقل الجماعة الإسلامية وحركة النهضة إلى حزب سياسي مدني، بعد أزيد من أربعة عقود على نشأتها.
حَرِص المؤتمرون على إبراز مواقف الشيخ راشد الغنوشي في هذه المسألة، باعتباره مُنَظِّر الجماعة الإسلامية التونسية ورئيس حركة النهضة، وعملوا على تعميم تصريحاته بالمفردات نفسها. وقد نشرت جريدة العالم الفرنسية، يوم 20 مايو/أيار 2016، مجموعة من المواقف في صيغة حوار مكثَّف مع رئيسها، عَبَّر فيه عن موقفه من مسألة الفَصْل بين الدَّعَوِي والسياسي، في علاقته بأوضاع تونس وأوضاع المنتمين إلى "النهضة". كما وضَّح مواقف حزبه من بعض القضايا الخلافية بين الحداثيين والمحافظين، من قَبِيل موضوع المساواة بين الرجل والمرأة، والمساواة بين الجنسين في الميراث، وحدود مستويات تحالفه مع حزب نداء تونس، وغير ذلك من القضايا ذات الصلة بسياق المؤتمر، ومجمل التحوُّلات السياسية التي تعرفها تونس.
عندما علمت أن جدول أعمال المؤتمر العاشر لحزب النهضة يتضمَّن بنداً يتعلق بمسألة التفكير في الفصل بين الدَّعَوِي والسياسي، بَدَا لِي أن الأمر ينخرط في إطار مسلسل المراجعات الكبرى، المفترض أن تكون خياراً مركزياً في سياق التحوُّلات العاصفة التي عرفتها وتعرفها أغلب المجتمعات العربية منذ أزيد من خمس سنوات.
وبناء عليه، النخب السياسية العربية في أزمنةٍ مماثلةٍ لما يجري اليوم في مجتمعاتنا، مُطَالَبَةٌ بضرورة التفكير في حدود خياراتها السياسية، كما أنها مدعوّة لإعادة التفكير في المرجعيات والنواظم الفكرية التي تحتكم إليها، للتمكّن من بناء الشعارات والتصوُّرات المكافئة لحجم (وقوة) التحدِّيات المطروحة عليها. وضمن هذا السياق، تابعت النتائج التي أعلنها المؤتمر، حاولت استيعاب ما أثارته من ردود فعل متناقضة.
لا تكشف المواقف التي عَبَّر عنها مؤتمر حزب النهضة، في مسألة الفَصْل بين الدَّعَوِي والسياسي عن خيارات واضحةٍ وتامة. ولم تذهب المواقف التي تَمَّ تعميمها بعيداً في موضوع التفكير في حدود السياسي والديني في تونس، وفي المجتمعات العربية، ولم تستأنس لا بِمُحَصِّلَةِ التاريخ في هذا الباب، ولا بإشكالات الحاضر في الموقف من أنماط توظيف الدين في المجال العام.
لم تستطع لغة تعيين حدود الفصل، كما تداولها المؤتمرون، وفصل المساجد عن قضايا الشأن
العام، مغادرة الحصون الصلبة القائمة، حصون لغة تستخدم مفهوم الدعوة، من دون أن تفصح عن مضمونها، بل لم تستبعد حدود الفصل الأدوار العديدة الموكولة إلى الدعاة في المجتمع التونسي، واكتفت بحصر مجال عملهم. أما حديث المؤتمر عن تخصُّص الحزب في الأنشطة السياسية، وتخصُّص الهيئات الدَّعَوِيَّة التابعة له في تعميم المكرمات الدينية، فإنه يندرج في إطار أشكالٍ من الوصل، تتجاوز ما كان قائماً، الأمر الذي يترتَّب عنه أن مؤتمر الحزب لم يكلف نفسه عناء التفكير والاجتهاد في بلورة المواقف المُقْنِعَة، أي المواقف المبنية نظرياً وتاريخياً.
لا علاقة لِلْمَخْرَج الذي تداوله المؤتمرون بموضوع التمييز بين مجالي السياسة والدين، ولعل المؤتمرين لم يفكروا في موضوع الفصل والتمييز، وقد تَمَّ الاكتفاء بجمل الشيخ في صيغة محفوظاتٍ يتم النطق بها، ولا يجرؤ أحد على استبدالها بمرادفاتها، قصد تنويع الإيحاءات وزعزعة الدلالة، فَتَلَكَّأَت العبارات داخل المؤتمر، ليتحدّث أصحابها عن التخصُّص الوظيفي في موضوع الفصْل بين مجالي الدَّعَوِي والسياسي، وكأننا نواجه موقفاً يتضمَّن رغبةً قويةً في مزيد من المحافظة على العلاقة بين الحركة والحزب، بين انخراط الحزب في المسلسل الديمقراطي وحرصِه، في الآن نفسه، على المرجعية الإسلامية بِعَتَادِهَا الدَّعَوِي العتيق.
يتواصل التلفيق في مواقفنا السياسية، فلا يجد حزب النهضة أي حرجٍ في إعلان اعتماده المرجعية الإسلامية، ليُعَزِّز بواسطتها خياراته الحداثية والديمقراطية. لم تتجاوز الجمل الواردة في تصريحات راشد الغنوشي وأقواله المخرج التوفيقي الذي يجد في نفسه الشجاعة الكافية للقول إن حزب النهضة يستوحي مبادئه من قيم الإسلام والحداثة. إنه لا ينتبه إلى الجرأة النظرية والتاريخية التي تستوعبها أعمال هشام جعيط، وهو مفكِّر تونسي معاصر له. كما أنه لم يستوعب الأفق الذي رسمت ملامحه مقدمة خير الدين باشا التونسي، وقد ركَّبَت زمن صدورها مواقف تفوق تمتمات الراهن في المؤتمر العاشر لحزب النهضة.
تُعيدنا أسئلة مؤتمر حزب النهضة ومواقفه إلى جذور موضوع توظيف الدين في العمل السياسي، إنها تعيدُنا إلى ضرورة التفكير بطرقٍ أخرى في كيفية التخلُّص من مختلف أشكال (وآليات) التلاعب بالدين بين النخب السياسية. إنها تدفعنا إلى نقد مواقف الدولة والدستور من الدين وأدواره في المجتمع، ونقد مراوغات الأحزاب السياسية المكشوفة، لعلنا نتمكَّن من تجاوُز صُور الصمت وأصناف المخاتلات التي ما فتئت تمارسها النخب في موضوع الموقف من الدين، والموقف من علاقة السياسة بالدين.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".