اليسار المغربي والعزف المنفرد

04 يوليو 2024

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

يطرح المشهد الحزبي في المغرب أسئلة عديدة، يرتبط بعضُها بالنظام السياسي، ويرتبط بعضُها الآخر بالتعدّدية الحزبية القائمة. ولأن النظام الحزبي المغربي يقترب اليوم من إتمام قرن، من الحضور والمشاركة في بناء عديدٍ من أوجه الحياة السياسية المغربية، فإنه يدعونا إلى التفكير في مآلاته وصور علاقاته بالنظام السياسي القائم، والتفكير أيضاً، في مستقبله في ضوء مواصلة العمل من أجل مزيدٍ من تحديث النظام ودمقرطة الحياة السياسية. وسنقترب هنا من بعض أوجُه اليسار المغربي ومآلاته، لعلنا نتمكّن من تشخيص جوانب من أسئلة الحياة الحزبية وأنماط تحوّلها. وإذا كانت بدايات العهد الجديد قد حملت إرهاصات سياسية جديدة، ترتبط، في جوانب منها، بتطوّر النظام السياسي وتطوّر العمل الحزبي، طوال عقود ما بعد الاستقلال، بمختلف المخاضات والصراعات ومشاريع الانقلاب التي تخلّلتها، فإن من حقنا أن نتساءل عن النتائج التي ترتبت عنها.

استوعب مفهوم العهد الجديد مبادرات توخّت تعزيز دوائر التحديث السياسي، أبرزها إنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، بهدف تصفية تركة ما سمّيت سنوات الرصاص، والتصالح مع الأجيال الجديدة من اليسار. وعكست بعض بنود دستور 2011 جملة من المعطيات المرتبطة في منطوقها ودلالاتها العامة، بروح قيم الحداثة والتحديث السياسيين. فهل أثمرت المبادرات التي ذكرنا تحوّلاً في المشهدين، السياسي والحزبي، في المغرب؟ لا نعتقد بحصول ذلك، ولعلنا لاحظنا، في الآن نفسه، أن الفاعل السياسي في العهد الجديد يشتغل بآليتين: الأولى ساهمت في الإعداد لما جاء أعلاه، والثانية ظلّت أعينها منفتحة على المشهد الحزبي، لمواصلة ترتيب جيوبه وقواعد عمله. مع ضرورة الوعي بأن الآلية الثانية يشترك فيها النظام مع فاعلين كثيرين في المشهد الحزبي، وهو ما يفيد مزيداً من الابتعاد عن قيم التحديث السياسي والحرية السياسية، في مجتمع يتطلّع لبناء قواعد الإصلاح الديمقراطي وأصوله. وبجوار ما سبق، تحضُر معطيات الفضاءات الرقمية لتشارك، بطرقها ومنصّاتها، في المشهد السياسي.. كما تحضُر وتتكرّر لازمة العزوف السياسي!

أمران اثنان لا يمكن فصلهما عن موضوع التفكير في أحوال اليسار، يتعلّق أولهما ببروز الطابع القسري والمصطنع للتعدّدية الحزبية المغربية. ويشير الثاني إلى أدوار النظام السياسي المتواصلة في رسم خرائط المشهد الحزبي، علماً أن الأدوار التي نتحدّث عنها هنا تسير بمباركة الفاعل السياسي، أي تتم بنوع من التواطؤ المُعْلَن، أو غير المُعْلَن بينه وبين النظام السياسي، ويتم إيجاد المبرّرات التي تمنح هذا النوع من التواطؤ الشرعية المطلوبة له.

نبحث عن أحوال اليسار المغربي ومآلاته، وسط التفاعلات الجارية في قلب حركية المشهد السياسي اليوم فلا نجده

لا ينبغي أن نغفل الإشارة هنا إلى معيار النظر، الذي نمارسه ونحن نحاول التفكير في أحوال اليسار المغربي، ذلك أن الخطأ الأكبر الذي تقع فيه بعض المقاربات التي تفكّر اليوم في مآلات اليسار في المغرب وفي العالم، يتمثل في محاكمتها الراهن بعيون الماضي، متناسيةً أن شروط العمل الحزبي اليوم تحكُمها متغيّرات جديدة، نفترض أنها شملت وتشمل نظام العمل السياسي الحزبي وآلياته في عالم وفي مجتمع لم تعد حدودُهما واضحة تماماً، الأمر الذي يتطلب نوعاً من التفاعل اليقظ والمفضي إلى بناء خياراتٍ جديدةٍ والمشاركة في تحوّلات جارية، والمساهمة في عمليات بناء قيم مكافئة لصور التحوّل التي يعرفها مجتمعنا، وتنعكس، بصورة أو أخرى، على مشهدنا السياسي.

نبحث عن أحوال اليسار المغربي ومآلاته، وسط التفاعلات الجارية في قلب حركية المشهد السياسي اليوم فلا نجده، فهل تراجع مؤقتاً لتدبير (تسيير) أحواله في ظل الأغلبية الجديدة (2021)، التي يقودها واحد من الأحزاب الإدارية ذات النزوع الليبرالي؟ أم أنه اختفى عن الأنظار تماماً، وترك المجال السياسي لمن أَوْكَلَ إليهم النظام تسيير السياسات العمومية بشعاراتٍ ترتبط بالأفق السياسي اليساري؟ الإشارة هنا إلى شعار دولة الحماية الاجتماعية، الذي ترفعه وتتغنّى به الأغلبية الحكومية، وهي أغلبية يقودها حزبٌ إداريٌّ قديم، التجمّع الوطني للأحرار، وآخر جديد بمواصفات وسمات مشتركة، حزب الأصالة والمعاصرة، وبحضور حزب الاستقلال الذي يحمل علامات زمن مضى، كما يحمل علامات تصله بمختلف أوجُه الحياة الحزبية في العهد الجديد.

إجماع على تراجع اليسار المغربي، عن مختلف الأدوار والمهام التي أنجز في التاريخ المغربي، الأدوار السياسية والأدوار الثقافية

يمارس اليسار المغربي طقسه المعتاد في العزف المنفرد، وهو اليوم مجموعة من الأحزاب الصغيرة، المتشابهة في عدم قدرتها على مواكبة تحوّلات المجتمع وتحوّلات القيم في عالم متغيّر... والمتشابهة في مواصلتها مجتمعة الاكتفاء بالعزف المنفرد، وعدم انتباه من تبقّوا من العازفين إلى خفوت الأصوات الصادرة عنها وتلاشيها.. ومقابل ذلك، يحرص النظام السياسي المغربي على مبدأ تسيير المشهد الحزبي، وترتيب أنماط أولوياته وصور تَدَرُّجِه، بحساب نتائج تسييره المتغيرات الحاصلة في الحاضر المغربي والإقليمي والعالمي. وبجانب ما ذكرنا، يواصل الإسلام السياسي إغراق فضاءات التواصل الاجتماعي، بخطابات شعبوية مبنية على أخلاق (وثقافة) التسوّل والبسملة والإحسان. فماذا يمكن أن ننتظر من مسارات الفعل السياسي في الحاضر المغربي؟ وماذا يمكن أن ننتظر من احتجاجات المواقع، وهي احتجاجاتٌ تتم في فضاءاتٍ لا أرض ولا سماء ولا مؤسّسة تنطق باسمها؟

هناك إجماع اليوم على تراجع اليسار المغربي، عن مختلف الأدوار والمهام التي أنجز في التاريخ المغربي، الأدوار السياسية والأدوار الثقافية، حيث رسمت فتوحاتُه في السنوات الأولى للإستقلال كثيراً من فضائل العمل السياسي ومزاياه... إلا أن الإشارات المختزلة في التعبيرات السابقة لم يعد لها أثر يُذكر اليوم، وسط حوانيت اليسار الصغيرة، والحاملة لبضاعة لا علاقة لها بما خَلَّفته وتُخلِّفه حركية التغيير الجارية، في قلب المجتمع المغربي.

ما هي مبرّرات التشرذم القائمة اليوم وسط مجموعات اليسار الحلقية؟ إذا كنّا نؤمن بأن معركة اليسار مع النظام السياسي القائم ترتبط اليوم بالدمقرطة وتعزيز قيم التعاقد وأخلاق المواطنة والتقدم، كما ترتبط بوضعية التعدّدية الحزبية المصطنعة والهشّة، فإن الأمر يستدعي، الآن وليس غداً، وقف نزيف التشرذم الحاصل في القوى اليسارية. ولا يحصل ذلك إلا بالتخلص من كثير من أعباء تصوّرات لا تاريخية عن العمل الحزبي والصراع السياسي في عالم اليوم... صلابة التحديات التي يواجه اليسار في العمل الحزبي في مشهدنا السياسي تعادلها صلابة أخرى ترتبت عن تجربته في العمل السياسي، أي تركة الخلل التنظيمي التي تحمّلها كثير من أحزابه وتياراته. فهل يستطيع اليسار أن يعمل على وقف عزفه المنفرد؟

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".