أسماء صيف 2024

18 يوليو 2024
+ الخط -

يُعدّ فصل الصيف في مجرى الزمن ودورة أشهر السنة مجرّد رقم واسم جرى التوافق على ترتيب بداياته ونهاياته بحسابات محدّدة وقابلة للتغيير. ومعلومٌ أن التوافق المذكور يرتبط بنمط عيش البشر، وبكل ما له صلة بأشكال تدبيرهم أنظمة العمل والإنتاج في المجتمع، وكذا أحوال الطبيعة وأنظمة الحروب والأفراح، والموت والحياة... حيث تنشأ ثقافة متّصلة بكل ما ذكرنا. وداخل هذا التصوّر، تتّخذ كل سنة مواصفاتٍ معينة. تُطْلَقُ عليها أسماء، وتُرسم لها خطوط وألوان تختلف من سنة إلى أخرى.

هناك فصول وسنوات في التاريخ القريب والبعيد، ارتبطت بوقائع ولم تعُد تُذكر دونها، على سبيل المثال صيف سنة 1967 والهزيمة العربية الكبرى أمام المليشيات الصهيونية. أما 1968، فَتُذَكِّر بتبلور خطابات النقد الذاتي في الفكر العربي بعد الهزيمة، كذلك تُذكّر بالانتفاضة الطلابية الفرنسية والعالمية، وشعارات التحرّر التي كانت تتغنّى بها، وهي تشير، في بعض أوجُهها، إلى ميلاد الملامح الكبرى للفكر الجديد في فرنسا وفي أوروبا. ويمكن أن تضاف إلى ما سبق التسميات التي يربطها الأفراد بسنوات أو أشهر أو أيام محددة، والتي ترتبط، في العادة، بأفراحهم وأحزانهم. والإشارة هنا إلى البصمة التي يحدّد بها الفرد أو المجتمع صور علاقاته بكل ما يرتبط بمجرى الأيام من وقائع وأحداث.

إذا كانت نهاية سنة 2023 قد حملت اسم عودة المقاومة الفلسطينية الباسلة، وهو اسمٌ يتعلق بحدث تاريخي كبير، سيكون له ما بعده في الحاضر والمستقبل الفلسطينيين، فإن صيف 2024 يحمل الاسم نفسه، مع جملةٍ من المواصفات الإضافية، التي ترسم للمقاومة العائدة أدواراً جديدة، في سياق تاريخ الصراع الفلسطيني المتواصل مع الصهيونية، ومع جسم دولة الكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي. وقد رسمت المقاومة الفلسطينية بعودتها الملامح والعناوين الكبرى، لمشروع التحرير والتحرّر من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الذي أصبح يعتقد أن عقود استيلائه على الأرض، وهيمنته على الإنسان والتاريخ والثقافة الفلسطينية، ستمكّنه من إتمام عمليات ضمّه واستيطانه ما تبقّى من الأرض، ودون أدنى اهتمام بالشعب الفلسطيني ومصيره.

تحرّكت كثير من القِوى الحية في العالم، مُندِّدة بجرائم الحرب الصهيونية الغربية في فلسطين

ساهمت المقاومة الفلسطينية، العائدة بمختلف تضحياتها، في عملية رفع أعلام وشعارات التحرير مُجدّداً، كما ساهمت في فضح كثير من أوجُه السردية الصهيونية ومخاطرها. وتحرّكت كثير من القِوى الحية في العالم، مُندِّدة بجرائم الحرب الصهيونية الغربية في فلسطين، وداعيةً إلى ضرورة إسناد الشعب الفلسطيني، الذي يعاني منذ عقود من عمليات احتلال تروم تهجيره وإبادته، مُستندةً في ذلك إلى لغة القوّة وآليات الفعل الاستعماري في أبشع صوره، حيث استعملت وتستعمل مختلف الوسائل والأسلحة، من أجل استكمال عمليات الضّم والاستيطان، ثم الهيمنة بمختلف مستلزماتها وتوابعها... ونتصوّر أن ربط صيف سنة 2024 بعنوان عودة المقاومة، بمختلف صُورِ مواجهتها المخطّطات والحروب الصهيونية، وبكل ما خلفته من آثار في جسم المشروع الوطني الفلسطيني، ومن دون إغفال ما يمكن أن يترتّب عنها اليوم أو غداً في الحاضر الفلسطيني، حيث سنتمكّن ابتداءً من هذا الصيف من بناء طرقٍ جديدة للتفكير في القضية الفلسطينية، نستحضر فيها جملة الوقائع والأفعال قبل أشهر الصيف، والأحداث التي تواصلت خلال أشهره وأيامه.

ويمكن أن نضيف إلى الأمثلة السابقة مثالاً آخر، يرتبط بالمأزق الحاصل اليوم في فرنسا، بعد أن حلّ الرئيس الفرنسي الجمعية العامة (البرلمان) بعد فوز اليمين الفرنسي المتطرّف في البرلمان الأوروبي، وتراجع مقاعد حزب ماكرون والأحزاب اليسارية. وقد دعا ماكرون، في ردّ فعل على ما جرى في انتخابات البرلمان الأوروبي، إلى إجراء انتخابات مبكّرة، لكن نتائج هذه الانتخابات التي أُعْلِنت يوم 8 يوليو/ تموز الحالي، أفرزت مأزقاً جديداً في الديمقراطية الفرنسية، حيث سمحت لعبة الانتخابات في دورتها الثانية بإطاحة مشروع صعود اليمين المتطرّف، وأدّت إلى عدم نجاح الخطط الماكرونية الهادفة إلى تدارك بعض ما حصل لحزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي، ومنحت الجبهة الشعبية الجديدة (تحالف اليسار) الرتبة الأولى بأغلبيةٍ لا تسمح لها بتشكيل حكومة جديدة.

فشلت حسابات الرئيس وتوقعاته، ودخلت القوى السياسية في دوّامة من الجدل... والمأزق الذي ترتب اليوم عن الانتخابات الجديدة يضع الديمقراطية الفرنسية أمام مأزقٍ جديد، أمام حالة من الانسداد، الأمر الذي يفيد بأن لما حصل في فرنسا صلة بسبع سنوات من حكم تيار ماكرون. نقف اليوم أمام عملية تحجّر القيم السياسية في المجتمع الفرنسي، وتقف الديمقراطية الفرنسية أمام امتحانات جديدة.

نقف اليوم أمام عملية تحجّر القيم السياسية في المجتمع الفرنسي، وتقف الديمقراطية الفرنسية أمام امتحانات جديدة

كان بإمكاننا أن نطلق على قمّة البحرين التي انعقدت يوم 16 مايو/ أيار الماضي اسماً من أسماء صيف 1924، لو تمكّن المشاركون فيها من قادة الدول العربية أو من يمثلهم، من إضافة موضوع التطبيع إلى جدول أعمالها، وقد كان يمكن أن تتحوّل القمّة التي انعقدت بعد أزيد من ستة أشهر على العدوان الصهيوني على فلسطين، إلى قمّة لوقف معاهدات التطبيع أولاً مع الصهاينة، حيث لا يُعقل أن تواصل الدول العربية المطبّعة علاقاتها مع كيانٍ يمارس جرائم حرب على شعب أعزل. مرّت القمة من دون أن يلتفت إليها أحد، كما مرّت التي قبلها. أصبحت القمم الأخيرة تعكس بجلاء تام الصورة التي أصبح عليها الوضع العربي، وأصبحت عليها العلاقات العربية مع فلسطين، ومع القوى الاستعمارية التي تواصل حضورها في قلب أغلب البلدان العربية.

لا علاقة لبيان القمة بكل ما جرى ويجري اليوم في فلسطين، منذ زمن إطلاق طوفان الأقصى وعودة المقاومة الفلسطينية (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، الهادفة إلى مواجهة الاستعمار الصهيوني وكسر المعاهدات التطبيعية التي منحته أحاسيس اقتراب النصر، حيث واصل ضمّ واستيطان ما تبقّى من الأرض، واختراق المحيط العربي في المشرق والمغرب والخليج. وقد عادت المقاومة لتتصدّى لهذا كله المشار إليه.. أما بيان القمة، فقد سَطَّر فقرات لها وظيفة واحدة، تتمثل في صمتها عن كل ما جرى ويجري، وصمتها عن بنود مواثيق التطبيع. إنها قمّة لم تقع، بحكم أن لا علاقة لما ورد في بيانها الختامي بجرائم الصهاينة في غزّة الصامدة، ولا علاقة لها بطموح الشعوب العربية المتطلعة إلى استكمال التحرير.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".