في مديح برلين

18 يونيو 2016

ساحة كارل ماركس في برلين (3مارس/2016/Getty)

+ الخط -
حين تتجوّل في برلين، أنت السوري الذي تزورها للمرة الأولى في حياتك، فاعلم أنك ستسمع اللهجة السورية المميّزة في أي مكانٍ تكون فيه، في المترو، في القطار، في الباص، في الحدائق، في الساحات الكبيرة، في أماكن التسوق، في المقاهي والمطاعم، في الندوات الثقافية. في كل مكانٍ سوف تسمع اللهجة السورية، وستقابل سوريين تعرفهم، وآخرين لا تعرفهم. يعيش السوريون في برلين، كما لو كانت مدينتهم منذ زمن. ثمّة أُلفةٌ تلاحظها مباشرة بينهم وبين هذه المدينة الكبيرة، تشعر بها أنت أيضاً، الزائر العابر، وتنسى معها أنك بلا وطن، على الرغم من جهلك المطبق باللغة الألمانية بالغة الصعوبة، ومحاولاتك الفاشلة للنطق بأسماء الشوارع التي تزورها يومياً. ومع ذلك، ستشعر أنك لا تريد مغادرتها، وأن ثمة ما يشدّك إليها، شيء ما لا علاقة له بمزايا اللجوء التي يبحث عنها اللاجئون عادةً، والتي تقدمها الحكومة الألمانية للسوريين، بل لسببٍ مختلفٍ تماماً، قد لا يعني غيرك كثيراً، إذ ثمّة في برلين هذا التنوّع المذهل الذي تبحث عنه في كل شيء، في البشر وأشكالها ومنابتها، في معمار المدينة، في الثقافات المختلفة، في مزاج الطبيعة وجنونها، في تدرجات اللون الأخضر.

لا يمكن التعامل مع برلين بوصفها مدينةً واحدة، هي عدة مدن تحتضنها غابة من الأخضر بكل ما لدلالات اللون من معنى. هذا التنوع يجعلك في دهشةٍ دائمةٍ، ويستفز حواسّك للانتباه لكل تفصيل حولك، وستحاول معرفة سر الألفة التي تشعر بها من الأصدقاء الذين يعرفون المدينة جيداً، سيخبرك العارفون أن سبب ما تشعر به من الألفة الألمان من سكان برلين، أبناء (وأحفاد) أولئك الذين عاشوا الحرب العالمية الثانية، وفقدوا أعداداً هائلة من الضحايا من عوائلهم وأحبائهم، سببه أبناء وأحفاد أولئك الذين كانوا شاهدين على الدمار الكبير الذي لحق ببلادهم، وشاهدين كيف تشتغل الحروب على تدمير البنى النفسية للبشر مع تدميرها بنى المدن، و أبناء (وأحفاد) أولئك البشر ممن عاصروا الجدار الذي قسّم مدينتهم إلى قسمين، الجدار الأيديولوجي الذي ارتفع زمناً طويلاً حتى هدمه الألمان، إذ لا تنفع الجدران المرفوعة بين البشر سوى لرفع منسوب الكراهية، في حين علمت الحرب والدمار والمجازر والمحارق الألمان أنه ما من مجتمعاتٍ ودولٍ وأوطان تبنى بدون محبة، وبدون عدالة ومساواة، وأن الكراهية سترفع مزيداً من الجدران.

سيُخبرك العارفون أن الهولوكوست ضد يهود ألمانيا وأوروبا زمن النازية ربّى لدى الألمان إحساساً عالياً بالذنب ما زال مستمراً، وهو ما جعل غالبيتهم يتقبلون الاختلاف والمختلف بحبٍّ كبير، وجعلهم يقفون دائماً ضد وصول اليمين المتطرف العنصري إلى الحكم، وهو ما جعلهم أيضاً يفتحون قلوبهم للاجئين القادمين من بلدان الحروب والموت، ويساعدونهم على تخطي خوف ما عانوه في بلادهم، ووجل الوصول إلى بلادٍ غريبة. ثمّة شيء آخر في برلين، ربما ساهم في إظهار الجانب الأليف منها للغريب، أن من بنى برلين، إثر دمارها في الحرب العالمية الثانية، هم النساء، فالرجال فُقد غالبيتهم في الحرب، وبقيت النساء في مواجهة كل ذلك الدمار والموت، وفي لحظة تحدٍّ تاريخية قرّرن إعادة بناء المدينة، وإعادة الحياة إليها. وأضفى هذا التحدي التاريخي على المدينة طابعاً أنثوياً، فيه من اللطف والمودة والأمومة ما يمكنه مباشرةً إبعاد طيف الوحشة، الذي عادةً ما يشعر به الغريب، زاد في ذلك تلك المساحة المذهلة من الخضار المحيط والمتغلغل بالمدينة، وكأن إرادة الطبيعة تحالفت مع إرادة البشر، لجعلها تنسى تماماً ما مرّ عليها من موتٍ ودمار وحزن، لتتحول إلى مدينة مفتوحة على الحياة والتنوّع والاسترخاء، وربما صفة الاسترخاء أكثر ما يليق ببرلين، إذ تشعر وكأن إيقاع الحياة فيها أكثر سلاسةً وسهولةً من غيرها من العواصم الكبرى، وهذا ما انعكس على السوريين اللاجئين فيها، فعلى الرغم من صعوبة تعلم اللغة الألمانية، والتعقيدات الروتينية الأخرى، لا تشعر أنهم تحت ضغط نفسي ثقيل، شأن السوريين في باقي دول اللجوء والنزوح، وحتى في باقي المدن الألمانية، بل ستلمس لدى أصدقائك، هناك، إحساساً بالأمان والطمأنينة، يصيبك بالعدوى، وستشعر لحظتها بالحزن، لأن هذا الأمان لا يشعر به إلا القلة من أهل بلدك.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.