تهزمك الفنون يا موت

14 يونيو 2024

(خوان ميرو)

+ الخط -

ما هو العمل الفني المثالي الذي يمكن أن يحظى بالخلود، ويجعل صاحبه يشعر بأنه بلغ به حدّ الكمال، وأن عليه أن يتوقّف بعده؟ هذا السؤال الكبير والمضني هو السؤال التاريخي الذي أنتج للبشرية كل هذه الفنون الرائعة في كل المجالات، التشكيل والنحت والمسرح والسينما والشعر والموسيقا والرقص والأوبرا، وكل أنواع الفن الذي لم يتوقف يوما منذ بدأ البشري بالرسم على جدران الكهوف، واكتشافه العناصر الأساسية لحياته، وتجربته الجنس والخلق وصدمته مع الموت، حيث وصل الإبداع والخيال في تكامله مع العلم إلى حدّ غير متوقع. ومع ذلك، لم يُعلن يوماً أن ما جرى إنجازه حتى اللحظة هو الكمال، وأن على المبدعين أن يتوقفوا. ذلك أن السؤال الأساسي الذي يقف وراء الفنون والإبداعات والاختراعات هو سؤال الموت، والإنتاج البشري كله من دون استثناء، الخير والشرير، الجميل والقبيح، مرتبط بمحاولات فهم الموت واستكشاف ما بعده؛ حتى فكرة الأديان نفسها كانت محاولةً لتخفيف وطأة الموت عبر ربط الحياة بحياة أخرى غيبيّة لا يعرفها سوى الموتى، ويعيش الخيّرون خالدين فيها... هكذا يبدو الخلود كما لو أنه هو السؤال الثاني للفنون والإبداع؛ أي الأعمال الفنية تلك التي يمكن أن تبقى إلى الأبد، ويبقى اسم مبدعها أبدياً.

هل حقّقت، مثلاً، الإلياذة والأوديسة لهوميروس هذه المعادلة؟ هل فعلت ملحمة جلجامش التي كتبها سين لقي ونيني ذلك؟ من يعرف اسمي الكاتبين الآن؟ هل أعمال كالموناليزا لدافنشي أو الصرخة لإدوار مونش أو الفتاة صاحبة القرط ليوهانس فيرمر أو الغورنيكا لبيكاسو حققت ذلك؟ من الذي جعل فان كوخ أكثر حضوراً في الحياة، لوحاته العظيمة التي لم يقدّرها أحد في أثناء حياته ومات فقيراً حزيناً، أم بتره لأذنه وإهداؤها لجارته في واحدةٍ من نوبات اضطرابه النفسي؟ هل أجابت السيمفونيات العظيمة عن هذا السؤال، وخلدت موتزارت أو باخ أو بيتهوفن؟ هل كانت السيمفونية الناقصة لشوبرت غير دليل واضح على أن الفن لا يصل إلى حد الكمال إلا إذا مات صاحبه؟ بقيت تلك الأعمال الإبداعية مع أسماء مبدعيها موجودة، وستبقى عبر التاريخ، مثل ما أنتجه المصري والبابلي والسومري والفينيقي من إبداع مذهل ظل متميّزا وحاضرا منذ آلاف السنين. لكن هل تحقق الخلود لأصحابها الذين كان سعيهم كله إلى تجنب الموت والبحث عن الاستمرار في الحياة إلى الأبد؟ مات الجميع وبقيت إبداعاتهم شاهدة على وجودهم ذات يوم في هذه الحياة.

هل هذا هو الخلود الذي كان هؤلاء البشر يطمحون إليه أو يبحثون عنه؟ في تقديري، كان بحثهم أكثر مادية، كان يسير في رحلة جلجامش نفسها، كانوا يبحثون عن العشبة التي تبقيهم على قيد الحياة مادّيا لا رمزيا. ولكن لأن هذا ضربٌ من المستحيل بدأ التعويض يحصل في الفنون والإبداعات الكبيرة، فإن كان لا بد من الموت، فلنترك في هذه الحياة ما يدلّ على وجودنا ويبقي من هذا الوجود أثرا ما. هكذا، بدأت الفنون تنافس نفسها، وبدأ الفنان يبدع في كل عمل جديد. ومع كل عمل يبدأ الشعور بالنقص، بأن هذا العمل ليس هو العمل المثالي الذي سيبقى خالداً، وسيبقي اسمه قيد الخلود. هكذا، ربما، تطوّرت الفنون وقدّم الفنانون للبشرية كل هذا الإبداع الاستثنائي في الفنون والآداب والعمارة، وفي الرؤية الخاصة بكل منهم إلى الحياة والموت، وفي فهم كل منهم الكمال والنقص.

من حوار هذه الثنائيات حظيت البشرية بكل الجمال الذي تخلفه الفنون، فحين يشعر المبدع بأن عمله كامل ومثالي يتوقّف عن الإبداع. ما يُبقي الإبداع حيّا هو الشعور بالنقصان فيه، هذا النقصان هو بذرة خلود العمل الإبداعي؛ فكما أن لا شيء يكتمل في الحياة بسبب الموت، كذلك هو العمل الإبداعي محكومٌ بالنقصان، لأن اكتماله يعني موت صاحبه؛ هل كانت البشرية سوف تحظى بكل هذا الجمال، لو أن الموت غير موجود؟ أفكّر دائما في هذا محاولة تخفيف ثقل فكرة الموت علي. رؤيتنا إلى الجمال سببها فناؤه القريب، أو بالأصح فناؤنا نحن الذي نحاول تجنّبه بالإبداع، وباستخدام الخيال، وبمزج الفن والخيال والعلم. نذهب نحن من دون أن نحقق عملنا المثالي، لكنه سيبقى كاملا مثاليا واقفا في وجه الفناء آلاف السنين.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.