لبنان يُحطّم جدار الخوف

29 اغسطس 2015
+ الخط -
يعود جزء من اللبنانيين، اليوم السبت، إلى ساحة الشهداء، وسط العاصمة بيروت. يعودون بمطالب اجتماعية وعناوين التغيير، بعد أن كانت معظم التجمّعات السابقة تاريخياً سياسية. يعود اللبنانيون اليوم إلى عاصمتهم، لا من أجل فريق سياسي، أو لإحياء ذكرى سياسية، بل للمطالبة بأدنى حقوقهم المعيشية والاجتماعية، وكسر جدار خوفٍ بَنَاه نظام سياسي ـ طوائفي بعد أكثر من 72 عاماً من الاستقلال. لم يُكسر هذا الجدار، إلا بعد أن انحدرت البلاد إلى الحضيض، مع انتشار النفايات في كل مكان، منذ أكثر من شهر ونيّف، وتحوّل مجاري الأنهر والوديان إلى مكبّات ومطامر مُستحدثة، وبدء عهد حرائق النفايات الليلية يومياً. وكأن البشر في لبنان حقل تجارب، أو مجرّد دافعي ضرائب، لطبقة فاسدة لا تعرف أدنى مقوّمات الإنسانية.
قبل أقلّ من أسبوعين، كان كل شيء يموت ببطء في لبنان. الإيمان بالاستمرارية والعمل في البلاد كان من سابع المستحيلات. الحلم بالتغيير وإطاحة كل أركان الطبقة السياسية أقرب إلى معجزة واهية. الأساس حين تولد في لبنان هو أن تختار زعيماً، أو يختارك لانتمائك الطائفي والمناطقي. وتضطر أن تلوذ به، ليستخدمك بيدقاً في صراعه، أما أنت فتعمل على إنشاء ما تظنّه "شبكة أمان اجتماعية"، استناداً على "الزعيم". ولا تعود تتعلّم في أي مدرسة أو جامعة، أو تدخل مستشفى، أو تعمل، أو تحلّ مشكلة عقارية أو قضائية، أو تفتري على جارٍ لك من غير ميولك السياسية، إلا بدعمٍ من "الزعيم" أو سائقه. حقوقك البديهية في هذه الحالة تُضحي في قبضة "الزعيم"، وخارجها لا حقوق لك.
بعد هذا كله، تجد نفسك متماهياً مع "الزعيم"، خصوصاً حين تتابع كل ما يتعلق به عبر وسائل إعلام تابعة له، وتكون، بالتالي، أمام عملية "غسل دماغ" واسعة، لتنسى معها أنك مواطن حقيقي، وأنك إنسان يحق له العيش بكرامة ضمن منظومة دولتية، لا بسبب "رضى الزعيم" عليك. وتُقاتل جارك وزميلك ورفيقك وأخاك على موقف سيارة في مبنى مشترك، باسم "الزعيم". في الواقع، من السخافة أن تبذل ذاتك من أجل شخصٍ يعمل كل ما في وسعه لتسييرك كالدمية، لكن الأمر يبقى مفهوماً، حين يُمسكك بأبسط حقوقك. هنا يحصل "التدجين" و"الترويض" لنُصبح مثل سكان "سيرك" ثابت.
قفز هذا كله إلى الواجهة منذ أيام في بيروت. تخطى الشعب كل منظّري الأحزاب والفئات السياسية. كان التخبّط في أداء الحكومة والأطراف السياسية غريباً. لم يكن يتوقع أحدٌ أن يقف لبنانيون ويقولون "كفى". ظنّ كثيرون أن البلاد لن تشهد حركة اجتماعية قد تتحوّل إلى ثورة، واعتبروا أن الموت البطيء الذي يعيشه سكان هذه الأرض لن يجعلهم ينتفضون بسبب أكياس النفايات.
غير أن اللبنانيين رفضوا السكوت بعد اليوم، وشغلوا العالم. الداخل قبل الخارج. الأبواق الطائفية التي صَدَحَت، تلاقَت مع الأصوات الرافضة لأي حراكٍ شعبي، والمدفوعة بذهنية "المؤامرة". ولم يكن غريباً تحوّل معظمنا، وفقاً لهؤلاء، إلى "أتباع الثورات الأميركية الملوّنة"، أو "من مؤيدي إسقاط النظام اللبناني خدمة لحزب الله". ويُظهر هذا التفاوت بين العنوانين مدى صدقية الحراك اللبناني. كما أظهر الحراك أن هؤلاء المنتقدين لا يستطيعون التفكير أبعد من الحدود الطائفية والمناطقية، أو لا يثقون بقدرة الشعب على التفكير، وكأن منطق "التدجين" يبقى أقوى من أي انتفاضة شعبية. وللمرة الأولى، يتحالف الأضداد الطوائفيون والسياسيون الذين اعتادوا على محاربة بعضهم باسم الطوائف والأحزاب، واستخدام الناس مطية لقتالهم، ضد فئة اجتماعية. لم يعد لبنان مجرّد كوميديا سوداء، أو ألياذة هزلية تقتل الإنسان باسم الطائفية والمناطقية. لبنان اليوم ليس لبنان الشعر الواهم والتاريخ الكاذب، بل الوطن الذي يستحق أبناؤه وسكانه العيش بحريّة، بمعزل عن زعماء طائفيين اعتادوا نهش أجسادنا.
دلالات
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".