09 سبتمبر 2024
الثورة السورية... المسار والراهن
يمر الشعب السوري، بشقيه المعارض والمؤيد، في ظروف صعبة وقاسية، على جميع الصعد الاقتصادية، والأمنية، والسياسية، وهو ما فرض على الجميع الاهتمام بهذه الشؤون (بخلاف الحال قبل الثورة)، حتى أصبحت مادة دسمة لأي مجلس يكتب له الانعقاد، متناولين صعوبة العيش في ظل الضغوط الاقتصادية والفلتان الأمني والأمل أو الإحباط السياسي.
فبعد ظهور الشرخ بين أطياف الشعب السوري بين مؤيد ومعارض، إبّان انطلاق الثورة السورية عام 2011، نلمس اليوم رفض هذا الشعب، بشقيه، جميع القوى الموجودة على الساحة، وتحميلها أسباب الانهيار الحاصل على جميع الصعد، فمن اللافت للنظر تصاعد اللهجة النقدية لدى المؤيدين لإدارة الدولة، ووصفها بحكومة الأغنياء وأصحاب المناصب على حساب بقية الشعب، فتتوجه سهام النقد نحو تخاذل القوى العسكرية التابعة للنظام، سواء كان الجيش النظامي أو القوى المتعددة المتشكلة في غمار الأحداث (الدفاع الوطني، كتائب البعث، الشبيحة، درع الساحل...) نتيجة فسادها ودورها في استمرار الصراع، تلبية لمصالحها الفئوية الضيقة (من السرقات، أو ما يعرف بالتعفيش، إلى التجارة غير الشرعية بين مناطق النظام ومناطق المعارضة)، بالإضافة إلى تسخير الدولة جميع الإمكانات في خدمة الشريحة المسلحة على حساب باقي شرائح المجتمع، حتى على مستوى أبسط حقوق المواطن من الطعام والمحروقات وجميع حاجيات المعيشة اليومية والخدمات الصحية وغيرها.
ولم تسلم الأجهزة الأمنية من موجات الهجوم والانتقاد، للأسباب نفسها آنفة الذكر، ولمتاجرتها بحريات المواطنين، عبر استمرار الاعتقالات التعسفية لجميع مكونات الشعب، شهوراً عديدة، إن لم نقل سنوات، من دون إعطاء أية معلومة عن مصير المعتقلين، أو أسباب الاعتقال (ما يخالف القانون الذي أقره النظام نفسه في بدايات الثورة)، فراجت تجارة المعتقلين بواسطة العناصر الأمنية، أو أحد المقربين منهم (وسطاء) والتي تقوم على نقل أخبار المعتقلين وأسباب الاعتقال ومكان الاعتقال للأهالي، وإن كانت غالبية هذه الاخبار كاذبة ومغلوطة، لكنها تبقى القشة التي يتعلق بها الأهالي.
ساهم ذلك كله في تبيان طبيعة الدولة السورية في أعين شريحة واسعة من مؤيدي النظام، بعد انطلاق الثورة دولة أمنية وعسكرية، لا دولة قانون، وأن الآمر الناهي في هذه الدولة هو الأجهزة الأمنية، وما القضاء والبرلمان والوزراء، وما يدعوها النظام المعارضة الوطنية، سوى دمى تحركها الأجهزة الأمنية، لإضفاء بعض الألوان على صورة المشهد السوري.
من جهة أخرى، برزت سياسة النظام باسترخاص الدم السوري، مقارنة بدماء المقاتلين غير السوريين ومصيرهم، والتي ظهرت للعيان بعقد صفقات تبادل للمعتقلين بين قوات المعارضة والنظام، في حالة اعتقال المعارضة مقاتلين من غير الجنسية السورية، كالإيرانية أو اللبنانية (في بعض الحالات تم التبادل بين جثث لمقاتلين إيرانيين أو لبنانيين في مقابل معتقلين سوريين لدى الفروع الأمنية)، بينما تستمر معاناة أهالي المعتقلين الموالين للنظام، بالإضافة إلى خذلان المقاتلين السوريين الذين تحاصرهم، في بعض المناطق، قوات المعارضة (مشفى جسر الشغور مثلاً)، وتركهم ليواجهوا مصيرهم، بعد حصار طويل، فإما أن يقعوا في الأسر أو أن يلاقوا حتفهم على أيدي القوى المعارضة، من دون أي محاولة سياسية أو عسكرية، تجنب المحاصرين، وذويهم، مرارة الفقدان، أو انقطاع التواصل معهم، لتبرز إيران حاكماً فعلياً لسورية، ويسقط ادعاء النظام في بداية الثورة أن السوريين يحكمون أنفسهم بأنفسهم.
كما شكلت أخبار توجه النظام للتخلي عن محافظة السويداء مثالاً لحالة فقدان الثقة بالقيادة السورية الحالية، ودفعت أشخاصاً إلى بناء خط دفاع محلي، لمنع تنفيذ النظام مخططه المسرب، وحماية المحافظة من خطر قوات المعارضة، وخصوصا جبهة النصرة، ما دفع الجيش الحر في محافظة درعا إلى محاولة استثماره، عبر توجيه خطاب لأبناء محافظة السويداء، يعبر من خلاله عن عدم وجود نية للدخول في مواجهة بين المحافظتين، وكل ما يسعى إليه الجيش الحر هو الاستيلاء على القواعد العسكرية التابعة للنظام، كما أبدى استعداده للدفاع عن السويداء، في وجه أي هجوم من جبهة النصرة، في حال تم طلب ذلك منه أبناء المحافظة.
واستمر مسلسل الكشف عن طبيعة النظام السوري في أعين مؤيديه، من خلال ممارساته المعبرة عن مصالح فئة صغيرة، متمثلة بالطبقة الحاكمة، اقتصاديا وأمنيا وسياسياً، خصوصا بعد انتشار صور لأبناء هذه الطبقة، وهم يمارسون حياتهم الصاخبة، والسهر في أحضان الراقصات في كازينوهات بيروت، أو انتشار صور لأعراسهم وحفلاتهم المقامة ببذخ كبير، في مقابل صور أبناء عموم الشعب بين قتيل ومعتقل ومتسول للقمة العيش، وزادت الطين بلة دعوة هذه الحثالة السوريين إلى تنفيذ عمليات انتحارية ضد قوات المعارضة لحماية حكم الأسد. فضلا عن انتشار الدعوات، عبر الإعلام الرسمي، إلى مقاطعة داعمي المعارضة (الإرهاب حسب الإعلام الرسمي)، وخصوصا تركيا، بينما تستمر عمليات الاستيراد من تركيا عبر الطبقة النافذة، وتنتشر هذه البضاعة في الأسواق السورية، وكأن النظامين السوري والتركي في حالة سلم أهلي وتعاون اقتصادي.
وبمحصلة ما سبق ذكره، نلمس نقلة نوعية في وعي جزء كبير من الشعب السوري، كانت تدافع عن النظام إبّان الثورة (باستثناء حاملي السلاح اليوم) بوصفه نظاماً وطنياً، وممثلا لجميع السوريين، ويقوم بمجموعة من الإصلاحات القانونية، ليتلاءم مع متطلبات العصر، فنجد أن النظام بات ساقطاً من وجهة نظر المؤيدين والمعارضين. وما استطاع الثائرون رؤيته منذ بدايات الثورة احتاجت الفئات المؤيدة إلى سنوات لكي تدركه، مع فارق جوهري، يتمثل باستحالة حراك المؤيدين، اليوم، لإسقاط النظام لأسباب عديدة.
على الطرف الآخر، نجد أن المناطق الثورية اختبرت النظام الأسدي منذ قيام الثورة، وكشفت، منذ البدايات، عن طبيعته الأمنية والطبقية واللاوطنية. لذا رفعت شعار إسقاط النظام، ولا بديل عنه، ما دفع الجماهير الثائرة إلى التهليل لكل أشكال مقاومة هذا النظام. وبمضي الحصار والأيام، لمست الجماهير تحول غالبية تشكيلات الجيش الحر، واكتشفت الدور التخريبي للداعمين، وأشكال الابتزاز المستخدمة كقطع التمويل والتحكم بطبيعة تشكيلات الجيش الحر وبمسار المعارك أيضا، ما دفع القاطنين في المناطق الثائرة إلى التعبير عن رفضهم ممارسات هذه التشكيلات، بعد تحولها إلى صورة شبه كربونية عن النظام الأسدي. ولكن، بخطاب ديني، بدلا من الخطاب العروبي. فبعد جملة من الاعتقالات للناشطين المدنيين داخل المناطق المحاصرة، وبعد سلسلة انسحابات تكتيكية من دون خوض معارك حقيقية، وبعد اكتشاف المخازن المعبأة بالمواد الغذائية، في ظل الحصار الذي يعيشونه داخل المناطق المحررة، وبعد التستر والمشاركة، لا بل والتنسيق مع أطراف من النظام لسرقة المناطق المحررة، وبيعها، إما داخل مناطق النظام أو في الدول المجاورة لسورية، وخصوصا تركيا، أيقنت هذه الجماهير، ومن خلال التجربة، أن هذه التشكيلات، ونتيجة لفرض الداعمين لنشاطها وآليات عملها، لا بل ولأهدافها وقيادتها، هي نسخة كربونية عن النظام الذي ثارت عليه في عام 2011، ما دفع سكان المناطق المحررة إلى التعبير عن رفضهم هذه الوصاية. لا بل وتخوين كثيرين من قيادات هذه التشكيلات، فعلى الرغم من تحقيق بعض هذه التشكيلات بعض الانتصارات أخيراً، إلا أن الوعي الشعبي المتشكل أصبح خبيراً بطرق عمل هذه التشكيلات، وأصبح يعلم أن استمرار هذه المعارك وتحقيق مزيد من الانتصارات رهن بالقوى الداعمة، فها نحن اليوم نشهد حركات احتجاجية في غالبية المناطق المحررة، من إدلب إلى الغوطة الشرقية (مع العلم أن هذه الاحتجاجات لم تبدأ حديثاً، لكن ضعف التغطية الاعلامية لما يسمى بإعلام الثورة أبعدها عن واجهة الأحداث). غير أنها تحركات لم ولن تستمر حتى إسقاط هذه القوى ضمن الظروف الراهنة، وعلى الرغم من الشكل المسلح للصراع، إلا أن الثورة ما زالت حاضرة وبقوة، حتى في أشد الظروف صعوبة، ومازال الشعب يبحث عن ممثل حقيقي لثورته.
ويشير هذا الأمر إلى قدرة الثورة على النهوض ثانية، وبقدرات وإمكانات أكبر، إن استطعنا بلورة خطاب وطني، قائم على رفض جميع أشكال التدخلات الخارجية وإسقاط جميع القوى الحاكمة بقوة السلاح. ولتحقيق ذلك، علينا الاستفادة من الدروس السابقة للثورة، بالاعتماد على قوى الشعب السوري، فإن كانت عفوية الثورة، بأعوامها الأولى، نتيجة طبيعية لانعدام الحياة السياسية في سورية ما قبل الثورة، فإن الاستمرار بتمجيد هذه العفوية، ورفض تأطير الثورة عبر تبني برنامج ثوري، يشمل جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يشكل عائقاً أمام نجاح الثورة في توحيد الشعب السوري، أولاً، وفي تحقيق أهداف الثورة ثانياً، كما يسمح باستمرار التدخلات الخارجية.
ففي الفترة الماضية، وخصوصا في العام الأول للثورة، نجح النظام السوري من جهة، والدول الإقليمية من جهة أخرى، في حرف الثورة عن مطالبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال حصرها بمطلب إسقاط النظام، فعلى الرغم من ضرورة إسقاط النظام، إلا أن حصر أهداف الثورة بسقوط النظام خطوة مبرمجة لتخريب الثورة، وحرفها عن مسارها، عبر طمس غايتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، متجاهلين أن هذا الشعار رفع لتحقيق أهداف الثورة، بعد تبيان استحالة تحقيقها عبر إصلاحه.
وعلى الرغم من سوداوية المشهد السوري اليوم، إلا أن التداول اليومي لمطالب الثورة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبأشكال متعددة، تبعاً لحركية ووعي وقدرة الناشطين والمقهورين والمضطهدين، من خلال جميع أشكال النقد والاحتجاج على الممارسات القمعية والفئوية والاقتصادية والسياسية في كل من مناطق النظام والمعارضة، ذلك كله يعبر عن توفر البيئة الخصبة للعودة إلى أهداف الثورة، والبناء عليها لاستكمال النهوض الثوري الذي عمل على تقويضه، كما ذكرنا سابقاً، النظام وكذلك القوى الإقليمية والدولية، وهو ما يفرض علينا، نحن السوريين، الاستعداد الجيد لما هو آت، فإن كانت ثورة 2011 مفاجئة لغالبية السوريين، فإن الحركية الثورية اليوم، وإن كانت متسترة بفعل الصراع الدولي المسلح على الأرض السورية، تشكل القاعدة الأساسية لبناء سورية الغد.
نحن اليوم أمام مفترق طرق، إما تسليم سورية للقوى الإقليمية والدولية، لتبقى ساحة صراع وتفاوض بين هذه القوى، أو استعادة زمام الأمور عبر التعويل على كامل الشعب السوري، والعمل على تحقيق آماله وتطلعاته.
فبعد ظهور الشرخ بين أطياف الشعب السوري بين مؤيد ومعارض، إبّان انطلاق الثورة السورية عام 2011، نلمس اليوم رفض هذا الشعب، بشقيه، جميع القوى الموجودة على الساحة، وتحميلها أسباب الانهيار الحاصل على جميع الصعد، فمن اللافت للنظر تصاعد اللهجة النقدية لدى المؤيدين لإدارة الدولة، ووصفها بحكومة الأغنياء وأصحاب المناصب على حساب بقية الشعب، فتتوجه سهام النقد نحو تخاذل القوى العسكرية التابعة للنظام، سواء كان الجيش النظامي أو القوى المتعددة المتشكلة في غمار الأحداث (الدفاع الوطني، كتائب البعث، الشبيحة، درع الساحل...) نتيجة فسادها ودورها في استمرار الصراع، تلبية لمصالحها الفئوية الضيقة (من السرقات، أو ما يعرف بالتعفيش، إلى التجارة غير الشرعية بين مناطق النظام ومناطق المعارضة)، بالإضافة إلى تسخير الدولة جميع الإمكانات في خدمة الشريحة المسلحة على حساب باقي شرائح المجتمع، حتى على مستوى أبسط حقوق المواطن من الطعام والمحروقات وجميع حاجيات المعيشة اليومية والخدمات الصحية وغيرها.
ولم تسلم الأجهزة الأمنية من موجات الهجوم والانتقاد، للأسباب نفسها آنفة الذكر، ولمتاجرتها بحريات المواطنين، عبر استمرار الاعتقالات التعسفية لجميع مكونات الشعب، شهوراً عديدة، إن لم نقل سنوات، من دون إعطاء أية معلومة عن مصير المعتقلين، أو أسباب الاعتقال (ما يخالف القانون الذي أقره النظام نفسه في بدايات الثورة)، فراجت تجارة المعتقلين بواسطة العناصر الأمنية، أو أحد المقربين منهم (وسطاء) والتي تقوم على نقل أخبار المعتقلين وأسباب الاعتقال ومكان الاعتقال للأهالي، وإن كانت غالبية هذه الاخبار كاذبة ومغلوطة، لكنها تبقى القشة التي يتعلق بها الأهالي.
ساهم ذلك كله في تبيان طبيعة الدولة السورية في أعين شريحة واسعة من مؤيدي النظام، بعد انطلاق الثورة دولة أمنية وعسكرية، لا دولة قانون، وأن الآمر الناهي في هذه الدولة هو الأجهزة الأمنية، وما القضاء والبرلمان والوزراء، وما يدعوها النظام المعارضة الوطنية، سوى دمى تحركها الأجهزة الأمنية، لإضفاء بعض الألوان على صورة المشهد السوري.
من جهة أخرى، برزت سياسة النظام باسترخاص الدم السوري، مقارنة بدماء المقاتلين غير السوريين ومصيرهم، والتي ظهرت للعيان بعقد صفقات تبادل للمعتقلين بين قوات المعارضة والنظام، في حالة اعتقال المعارضة مقاتلين من غير الجنسية السورية، كالإيرانية أو اللبنانية (في بعض الحالات تم التبادل بين جثث لمقاتلين إيرانيين أو لبنانيين في مقابل معتقلين سوريين لدى الفروع الأمنية)، بينما تستمر معاناة أهالي المعتقلين الموالين للنظام، بالإضافة إلى خذلان المقاتلين السوريين الذين تحاصرهم، في بعض المناطق، قوات المعارضة (مشفى جسر الشغور مثلاً)، وتركهم ليواجهوا مصيرهم، بعد حصار طويل، فإما أن يقعوا في الأسر أو أن يلاقوا حتفهم على أيدي القوى المعارضة، من دون أي محاولة سياسية أو عسكرية، تجنب المحاصرين، وذويهم، مرارة الفقدان، أو انقطاع التواصل معهم، لتبرز إيران حاكماً فعلياً لسورية، ويسقط ادعاء النظام في بداية الثورة أن السوريين يحكمون أنفسهم بأنفسهم.
كما شكلت أخبار توجه النظام للتخلي عن محافظة السويداء مثالاً لحالة فقدان الثقة بالقيادة السورية الحالية، ودفعت أشخاصاً إلى بناء خط دفاع محلي، لمنع تنفيذ النظام مخططه المسرب، وحماية المحافظة من خطر قوات المعارضة، وخصوصا جبهة النصرة، ما دفع الجيش الحر في محافظة درعا إلى محاولة استثماره، عبر توجيه خطاب لأبناء محافظة السويداء، يعبر من خلاله عن عدم وجود نية للدخول في مواجهة بين المحافظتين، وكل ما يسعى إليه الجيش الحر هو الاستيلاء على القواعد العسكرية التابعة للنظام، كما أبدى استعداده للدفاع عن السويداء، في وجه أي هجوم من جبهة النصرة، في حال تم طلب ذلك منه أبناء المحافظة.
واستمر مسلسل الكشف عن طبيعة النظام السوري في أعين مؤيديه، من خلال ممارساته المعبرة عن مصالح فئة صغيرة، متمثلة بالطبقة الحاكمة، اقتصاديا وأمنيا وسياسياً، خصوصا بعد انتشار صور لأبناء هذه الطبقة، وهم يمارسون حياتهم الصاخبة، والسهر في أحضان الراقصات في كازينوهات بيروت، أو انتشار صور لأعراسهم وحفلاتهم المقامة ببذخ كبير، في مقابل صور أبناء عموم الشعب بين قتيل ومعتقل ومتسول للقمة العيش، وزادت الطين بلة دعوة هذه الحثالة السوريين إلى تنفيذ عمليات انتحارية ضد قوات المعارضة لحماية حكم الأسد. فضلا عن انتشار الدعوات، عبر الإعلام الرسمي، إلى مقاطعة داعمي المعارضة (الإرهاب حسب الإعلام الرسمي)، وخصوصا تركيا، بينما تستمر عمليات الاستيراد من تركيا عبر الطبقة النافذة، وتنتشر هذه البضاعة في الأسواق السورية، وكأن النظامين السوري والتركي في حالة سلم أهلي وتعاون اقتصادي.
وبمحصلة ما سبق ذكره، نلمس نقلة نوعية في وعي جزء كبير من الشعب السوري، كانت تدافع عن النظام إبّان الثورة (باستثناء حاملي السلاح اليوم) بوصفه نظاماً وطنياً، وممثلا لجميع السوريين، ويقوم بمجموعة من الإصلاحات القانونية، ليتلاءم مع متطلبات العصر، فنجد أن النظام بات ساقطاً من وجهة نظر المؤيدين والمعارضين. وما استطاع الثائرون رؤيته منذ بدايات الثورة احتاجت الفئات المؤيدة إلى سنوات لكي تدركه، مع فارق جوهري، يتمثل باستحالة حراك المؤيدين، اليوم، لإسقاط النظام لأسباب عديدة.
على الطرف الآخر، نجد أن المناطق الثورية اختبرت النظام الأسدي منذ قيام الثورة، وكشفت، منذ البدايات، عن طبيعته الأمنية والطبقية واللاوطنية. لذا رفعت شعار إسقاط النظام، ولا بديل عنه، ما دفع الجماهير الثائرة إلى التهليل لكل أشكال مقاومة هذا النظام. وبمضي الحصار والأيام، لمست الجماهير تحول غالبية تشكيلات الجيش الحر، واكتشفت الدور التخريبي للداعمين، وأشكال الابتزاز المستخدمة كقطع التمويل والتحكم بطبيعة تشكيلات الجيش الحر وبمسار المعارك أيضا، ما دفع القاطنين في المناطق الثائرة إلى التعبير عن رفضهم ممارسات هذه التشكيلات، بعد تحولها إلى صورة شبه كربونية عن النظام الأسدي. ولكن، بخطاب ديني، بدلا من الخطاب العروبي. فبعد جملة من الاعتقالات للناشطين المدنيين داخل المناطق المحاصرة، وبعد سلسلة انسحابات تكتيكية من دون خوض معارك حقيقية، وبعد اكتشاف المخازن المعبأة بالمواد الغذائية، في ظل الحصار الذي يعيشونه داخل المناطق المحررة، وبعد التستر والمشاركة، لا بل والتنسيق مع أطراف من النظام لسرقة المناطق المحررة، وبيعها، إما داخل مناطق النظام أو في الدول المجاورة لسورية، وخصوصا تركيا، أيقنت هذه الجماهير، ومن خلال التجربة، أن هذه التشكيلات، ونتيجة لفرض الداعمين لنشاطها وآليات عملها، لا بل ولأهدافها وقيادتها، هي نسخة كربونية عن النظام الذي ثارت عليه في عام 2011، ما دفع سكان المناطق المحررة إلى التعبير عن رفضهم هذه الوصاية. لا بل وتخوين كثيرين من قيادات هذه التشكيلات، فعلى الرغم من تحقيق بعض هذه التشكيلات بعض الانتصارات أخيراً، إلا أن الوعي الشعبي المتشكل أصبح خبيراً بطرق عمل هذه التشكيلات، وأصبح يعلم أن استمرار هذه المعارك وتحقيق مزيد من الانتصارات رهن بالقوى الداعمة، فها نحن اليوم نشهد حركات احتجاجية في غالبية المناطق المحررة، من إدلب إلى الغوطة الشرقية (مع العلم أن هذه الاحتجاجات لم تبدأ حديثاً، لكن ضعف التغطية الاعلامية لما يسمى بإعلام الثورة أبعدها عن واجهة الأحداث). غير أنها تحركات لم ولن تستمر حتى إسقاط هذه القوى ضمن الظروف الراهنة، وعلى الرغم من الشكل المسلح للصراع، إلا أن الثورة ما زالت حاضرة وبقوة، حتى في أشد الظروف صعوبة، ومازال الشعب يبحث عن ممثل حقيقي لثورته.
ويشير هذا الأمر إلى قدرة الثورة على النهوض ثانية، وبقدرات وإمكانات أكبر، إن استطعنا بلورة خطاب وطني، قائم على رفض جميع أشكال التدخلات الخارجية وإسقاط جميع القوى الحاكمة بقوة السلاح. ولتحقيق ذلك، علينا الاستفادة من الدروس السابقة للثورة، بالاعتماد على قوى الشعب السوري، فإن كانت عفوية الثورة، بأعوامها الأولى، نتيجة طبيعية لانعدام الحياة السياسية في سورية ما قبل الثورة، فإن الاستمرار بتمجيد هذه العفوية، ورفض تأطير الثورة عبر تبني برنامج ثوري، يشمل جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يشكل عائقاً أمام نجاح الثورة في توحيد الشعب السوري، أولاً، وفي تحقيق أهداف الثورة ثانياً، كما يسمح باستمرار التدخلات الخارجية.
ففي الفترة الماضية، وخصوصا في العام الأول للثورة، نجح النظام السوري من جهة، والدول الإقليمية من جهة أخرى، في حرف الثورة عن مطالبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، من خلال حصرها بمطلب إسقاط النظام، فعلى الرغم من ضرورة إسقاط النظام، إلا أن حصر أهداف الثورة بسقوط النظام خطوة مبرمجة لتخريب الثورة، وحرفها عن مسارها، عبر طمس غايتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، متجاهلين أن هذا الشعار رفع لتحقيق أهداف الثورة، بعد تبيان استحالة تحقيقها عبر إصلاحه.
وعلى الرغم من سوداوية المشهد السوري اليوم، إلا أن التداول اليومي لمطالب الثورة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبأشكال متعددة، تبعاً لحركية ووعي وقدرة الناشطين والمقهورين والمضطهدين، من خلال جميع أشكال النقد والاحتجاج على الممارسات القمعية والفئوية والاقتصادية والسياسية في كل من مناطق النظام والمعارضة، ذلك كله يعبر عن توفر البيئة الخصبة للعودة إلى أهداف الثورة، والبناء عليها لاستكمال النهوض الثوري الذي عمل على تقويضه، كما ذكرنا سابقاً، النظام وكذلك القوى الإقليمية والدولية، وهو ما يفرض علينا، نحن السوريين، الاستعداد الجيد لما هو آت، فإن كانت ثورة 2011 مفاجئة لغالبية السوريين، فإن الحركية الثورية اليوم، وإن كانت متسترة بفعل الصراع الدولي المسلح على الأرض السورية، تشكل القاعدة الأساسية لبناء سورية الغد.
نحن اليوم أمام مفترق طرق، إما تسليم سورية للقوى الإقليمية والدولية، لتبقى ساحة صراع وتفاوض بين هذه القوى، أو استعادة زمام الأمور عبر التعويل على كامل الشعب السوري، والعمل على تحقيق آماله وتطلعاته.