في دلالات التصعيد الصهيوني
أقدم الاحتلال الصهيوني على تصعيدٍ إقليميٍّ رباعيٍّ أخيراً، أوّله قصف موقعَين في ميناء الحديدة اليمني، منهما منشأة تخزين الوقود، ما أدّى إلى اشتعال النيران في خزانات الوقود. وثانيه اغتيال واحد من أكثر قادة حزب الله أهمّية؛ فؤاد شكر، في قصفٍ استهدف بناءً سكنياً في ضاحية بيروت الجنوبية معقل حزب الله. ثالثه، اغتيال رئيس حركة حماس إسماعيل هنيّة في مقرّ ضيافته في طهران، في أثناء زيارته للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان. أما رابعه، فيتمثّل في موقع اغتيال هنيّة، داخل العاصمة طهران، وفي مقرٍ تابعٍ للحرس الثوري الإيراني.
إضافةً إلى ذلك، أعلن الاحتلال في أعقاب اغتيال هنيّة تلقّيه معلوماتٍ استخباراتيةً دقيقةً تفيد بنجاحه في اغتيال قائد الجناح العسكري لحركة حماس محمّد الضيف، في العملية التي نفّذها جيش الاحتلال في خانيونس جنوبي قطاع غزّة (13/7/2024)، تلك العملية التي أسفرت عن استشهاد نحو 90 فلسطينياً مدنياً، وإصابة نحو 300 مدنيٍّ أيضاً. تجاهلت كتائب عزّ الدين القسّام آخر إعلان صهيوني بخصوص اغتيال الضيف، وهو تجاهلٌ مُوفَّقٌ وسليمٌ من الناحية العسكرية والاستخباراتية والسياسية، مع الإشارة إلى إعلان الكتائب في الـ13 من الشهر الفائت (يوليو/ تمّوز)، عقب المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في خانيونس، أنّ الضيف بخيرٍ وسلامة. تجاهُل الكتائب وإعلانها السابق يوم المجزرة أضعفا مصداقية الخبر الصهيوني، خصوصاً في ظلّ توالي أكاذيب الاحتلال أخيراً، وعدم عرض أيّ أدلةٍ تُؤكّد صحّة معلومات الاحتلال، فضلاً عن غياب التوضيح الإعلامي لسياق المعلومات الاستخباراتية، ومصدرها وسياقها، كما جرت العادة في مناسباتٍ سابقة. من هنا تمكن الإشارة إلى بعض دلالات التصعيد الصهيوني، الأمني والعسكري، ونسبياً الإعلامي، التي تُؤشّر كذلك إلى مآلات العدوان المُستقبلية، وربّما تُؤشّر إلى أبعد من ذلك.
يدل التصعيد الإسرائيلي على أهمّية الدور الإقليمي، فلجأ الاحتلال إلى ضرباتٍ قد تثني القوى الإقليمية عن مساندة المقاومة الفلسطينية
فشلٌ عسكريٌ: يدلّ آخر تصعيد صهيوني إقليمي على فشل داعمي الاحتلال في حمايته من تدخّلات جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وعلى فشل استراتيجية الاحتلال الإقليمية في الحدّ/ وقف استهداف الاحتلال من قبل أصدقاء فصائل المقاومة الفلسطينية الإقليميين، ردّاً على عدوان الاحتلال الحالي على قطاع غزّة، عدوان الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري.
تأثير القوى الإقليمية الكبير: يدلّ التصعيد أيضا على أهمّية الدور الإقليمي (حزب الله والحوثيون ومن خلفهم إيران)، وتأثيره الكبير على الاحتلال وعدوانه المستمرّ منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، ما دفع الاحتلال إلى التصعيد العسكري عبر ضرباتٍ موجعةٍ قد تثني القوى الإقليمية عن مساندتها العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية.
تفوقٌ استخباراتيٌ صهيونيٌ: نجاح الاحتلال في اغتيال قياديين بارزين، بدايةً بكبير مستشاري حزب الله العسكريين فؤاد شكر بغارةٍ صهيونية على بناءٍ مدنيٍّ في معقل حزب الله الرئيس؛ ضاحية بيروت، ثمّ في اغتيال إسماعيل هنيّة، رئيس حركة حماس، في قلب إيران، وفي مقرٍ تابعٍ للحرس الثوري، يُعبّر عن اختراقٍ استخباراتيٍّ صهيونيٍّ فاعلٍ لكلٍّ من حزب الله، والحرس الثوري الإيراني، ما يعني تفوّقاً استخباراتياً صهيونياً عليهما.
نجاح القسام استخباراتياً: يُعبّر التصعيد الصهيوني إقليمياً عن حالة الاستعصاء التي يعاني منها الاحتلال عسكرياً واستخباراتياً داخل قطاع غزّة، وتحديداً في ما يتعلّق باستهداف قادة كتائب عزّ الدين القسّام، وفي الوصول إلى أسراه لدى فصائل المقاومة.
صورة النصر: يندرج التصعيد الصهيوني الإقليمي في سياق بحث بنيامين نتنياهو عن صورة نصرٍ يمكن تسويقها ضمن جمهوره وحاضنة الاحتلال الاجتماعية، فضلاً عن تسويقها دولياً، من هنا يفهم توقيت استهداف إسماعيل هنية ومكان استهدافه، إذ لم يكن استهدافه سابقاً صعباً من الناحية العسكرية والاستخباراتية، نظراً إلى طبيعة نشاطه العلني.
توحيد جبهة الاحتلال الداخلية: ساهم التصعيد والاغتيالات المرافقة في توحيد المجتمع الصهيوني، أو في تخفيض حدّة الخلافات الداخلية، خصوصاً بعد تصاعد خلافات حاضنة الاحتلال الاجتماعية في الأسابيع القليلة التي سبقت التصعيد، بين مُؤيّدي التيّارات الصهيونية الدينية، والتيّار الصهيوني، والتيّارات الدينية، وما يسمى بالتيّار الليبرالي الصهيوني، التي بلغت ذروتها في اقتحام معسكر سدي تيمان.
فخ المسار التفاوضي: لم ينجح نتنياهو في فرض شروطه على المسار التفاوضي نظراً إلى عوامل عديدة، منها عدم دعمها صهيونياً من القوى والأحزاب من خارج الائتلاف الحكومي (بل حتّى من داخله، التي تعارض المسار التفاوضي أساساً)، والدوائر الاستخباراتية والعسكرية، ومن قبل حاضنة الاحتلال الاجتماعية. كما بسبب غياب الدعم الدولي لشروط نتنياهو، وتحديداً رفض إنهاء العدوان، ورفض الانسحاب الكامل من قطاع غزّة، ورفض الإفراج عن معظم الأسرى الفلسطينيين من القيادات الفلسطينية البارزة من داخل سجون الاحتلال. في ظلّ ذلك كلّه، بات المسار التفاوضي بمثابة الفخّ، من وجهة نظر بنيامين نتنياهو وشركائه في الائتلاف الحكومي، ما دفعه نحو البحث عن مخارج أخرى، منها التصعيد الإقليمي.
إطالة العدوان أو إنهائه: يفتح التصعيد الباب واسعاً أمام احتمالَين متناقضَين، إمّا توسيع العدوان وإطالته، أو إنهاؤه في غضون أسابيع قليلةٍ، فذلك يتوقّف، من وجهة نظر كاتب هذه السطور، على ثلاث مسائل هي: تماسك جبهة الاحتلال الداخلية، والاستعداد الأميركي للانخراط في حربٍ إقليميةٍ طويلةٍ نسبياً، وطبيعة ردّ القوى الإقليمية ونوعيّته وقوّته.
توسيع عدوان الاحتلال أو إنهاؤه يتوقّفان على تماسك جبهته الداخلية، ومدى استعداد أميركا للانخراط في حربٍ إقليمية
الضغط على فصائل المقاومة: بلغ الضغط على فصائل المقاومة الفاعلة في قطاع غزّة حدّه الأقصى، بعد سيطرة قوات الاحتلال على معبر رفح ومحور فيلادلفيا. رغم ذلك، لم ينجح نتنياهو وحكومته من انتزاع تنازلاتٍ كُبرى من فصائل المقاومة، لذا اعتقد الاحتلال أنّ التصعيد الإقليمي قد يجبر حلفاء وداعمي فصائل المقاومة الفلسطينية على الضغط عليهم للقبول بالشروط الصهيونية كما هي، في مقابل تجنّب الانزلاق نحو حربٍ إقليميةٍ، وربّما دوليةٍ، أوسع.
بناء على ما سبق كلّه، يبدو تصعيد الاحتلال الإقليمي أخيراً كأنّه ورقةُ حكومةُ الاحتلال الأخيرة للتملّص من تداعيات "طوفان الأقصى"، ونتائجه السلبية، إن لم يحدث أيٌّ من: تمكن الاحتلال من اختراق كتائب عزّ الدين القسّام في قطاع غزّة استخباراتياً، ما يؤدي إلى اغتيال قيادةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ فلسطينيةٍ وازنةٍ داخل القطاع المحاصر، أو انخراطٍ أميركيٍ حاسمٍ في حربٍ إقليميةٍ واسعةٍ ومديدةٍ، أو تراجع القوى الإقليمية المساندة لفصائل المقاومة الفلسطينية عن مساندتها العسكرية والسياسية والأمنية كاملةً، أو عن واحدتها، وهو ما سوف تكشف عنه الأسابيع القليلة المُقبلة، وإن كانت المُؤشّرات توحي برأي الكاتب بإصرار القوى الإقليمية المساندة على دورها المساند، حتّى لو أدّى استمراره إلى حربٍ إقليميةٍ واسعةٍ، والولايات المتّحدة غير متحمّسةٍ لأيّ تصعيدٍ إقليميٍ إضافيٍ، ما قد يعزز من احتمال زيادة الضغط الدبلوماسي، وربّما المالي، على الاحتلال لإجباره على وقف العدوان، ودفع ثمن فشله الاستخباراتي والعسكري في 7 أكتوبر (2023)