قبل انهيار حركة فتح المُحتمَل
حملت الأشهرُ الماضية مُعطياتٍ عديدةً فلسطينياً وإقليمياً ودولياً، على خلفية "طوفان الأقصى" وصمود الشعب الفلسطيني الأسطوري في قطاع غزّة، في مواجهة عدوان الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي الصهيوني، فضلاً عن صمود فصائل المقاومة الفلسطينية وقُواها. إحدى تلك المُعطَيات تراجع دور حركة فتح، التي كانت في النصف الثاني من القرن الماضي في طليعة القوى التحرّرية فلسطينياً وإقليمياً وعالمياً.
قد يعتقد بعضهم أنّ تراجع "فتح" لصالح حركاتٍ أخرى أمراً طبيعياً، بل قد يُعتبر من سنن الحياة، بيد أن الكارثة هنا ليست في تراجع دور الحركة فقط، بل أيضاً في انقلابها على ذاتها وتاريخها، من حركةٍ تحرّريةٍ إلى سلطةٍ وظيفيةٍ تخدم الاحتلال وتديم بقاءه. وبالتأكيد، لا ينطبق هذا الوصف على مُركّبات الحركة كلّها وأعضائها، بقدر ما يعكس حال قيادتها الحالية، التي تهيمن على مجمل الحركة، كما على السلطة ومنظّمة التحرير الفلسطينيتين، هيمنةً أمنيةً وسياسيةً وماليةً، حتّى بات الخروج عن طوْعها مغامرةً قد تعصف براتب مرتكبها، أو تزجّ به في السجن، أو تُلقي به خارج الحركة.
تعاقبت الأحداث التي أخطأت قيادة "فتح" بشأنها أو فيها، وأدّت إلى تراجع شعبيّتها وحصانتها، والأخطر أنّها أدّت إلى تقويض عوامل قوّتها، من توقيع اتّفاق أوسلو (1993) إلى التداعيات التي أعقبت الانتفاضة الثانية (2000)، وصولاً إلى انتصار حركة حماس في الانتخابات التشريعية (2006)، ومن بعدها إلغاء الانتخابات التشريعية، وانتهاءً بـ"طوفان الأقصى". أسهمت تلك الأحداث كلّها، وسواها، في اختفاء حركة فتح التي عرفناها قبل "أوسلو"، حتّى وصلنا إلى اليوم الذي أصبح فيه غياب موقف "فتح" عن موضوعٍ حسّاسٍ ومهمٍّ مثل "طوفان الأقصى"، أو عدوان الإبادة، أمراً غير مُستغرَبٍ ولا مُستهجَنٍ. نعم، غياب الموقف لا الدور، فغياب دور حركة فتح المقاوم لم يعد يثير استهجان الفلسطينيين منذ سنواتٍ مضت.
أسهم غموض عرفات في الحفاظ على شعبيته وعلى إرث "فتح"، فضلاً عن قدرته في مسايرة الرؤى الأميركية والصهيونية أحياناً
يعود انحدار شعبية حركة فتح، والأكثر أهمّية انحدار دورها، إلى عواملَ عديدةٍ أكثرها أهمّيةً تحوّلها من حركة تحرّرٍ إلى حزب سلطة. وعليه، بات دورها محصوراً في مؤسّسة السلطة، يتوزّع بين الخدمي والأمني، بل يُوصَف دورها في كليهما بالفشل، في ظلّ الاحتلال وفساد قادة السلطة. في مقابل ذلك، اختفى دورها الجماهيري والنضالي عبر كتائبها العسكرية، أو الكتائب المحسوبة عليها، أو عبر قيادتها سابقاً لفعّالياتٍ مُتعدّدةٍ من المقاومة الشعبية، أو السلمية. كما يعود ذلك أيضاً إلى تنكّر قيادتها الحالية لمجمل تاريخ الحركة، عبر رهانهم الأوحد على التفاوض سبيلاً وحيداً لحلّ القضية الفلسطينية، وفق الرؤية الأميركية – الصهيونية، وإلى هيمنة قيادة الحركة على مجمل أطرها المالية والسياسية والأمنية.
هذه العوامل الثلاثة السابقة لم تكن موجودةً في تجارب الحركة الصعبة السابقة، التي نجت منها الحركة، إذ ورغم مكانة رئيس الحركة السابق، الراحل ياسر عرفات، وتحكّمه في مفاصلها، لم يعمد إلى سياسة قطع التمويل، وإخضاع المعارضين بقوّة المال، إذ كان أسلوبه المالي يستند إلى واحد من خيارين، إمّا الإغراء المالي، أي وعد معارضيه بمزيدٍ من التمويل والغدق المالي إن دعموه، وربّما بمنصبٍ أعلى، أو كان يلجأ إلى التخصيص، عبر تكليف معارضيه بإدارة مشاريع/ مؤسّسات مُحدّدة مموّلة بالتأكيد، فيحدّ من تأثيرهم داخل أطر الحركة، ويبقيهم في هامشها، باعتبارهم ذخيرةً قد يعود إليها لاحقاً إن تبدّلت الأحوال والآراء، وهو ما مارسه عرفات في مراحل مختلفة مع عديد من الشخصيات القيادة الفتحاوية، بمن فيهم رئيسها الحالي محمود عبّاس. كما لم يُسجَّل على عرفات موقفٌ غير وطني، إذ أتقن لعبة التصريحات جيّداً، ما جعله يتربّع على عرش الخطابة الفلسطينية، واعداً مريديه بالدولة وعاصمتها القدس، من دون تحديد ماهيّة الدولة، في حدود الـ1967 أم وفق قرار التقسيم 181، أم في كامل حدود فلسطين التاريخية. أسهم غموض عرفات في الحفاظ على شعبيته الجارفة، وعلى إرث حركة فتح ولو خطابياً، فضلاً عن قدرته في مسايرة الرؤى الأميركية والصهيونية أحياناً.
لا يعمد، اليوم، قائد حركة فتح الحالي محمود عبّاس، رفقة بطانته سيّئة الصيت، إلى قطع تمويل معارضيه فقط، بل لا يتردّد عن فصلهم من الحركة، غير مُكتَرثٍ بنظام الحركة الأساسي، الأمر الذي أدّى إلى إفراغ الحركة من قسمٍ كبيرٍ من كادرها الوطني والحريص عليها، كما قضى على تنوّع الحركة الداخلي، سياسياً وتنظيمياً، لتغدو حركةً شديدةَ المركزية، ما أضعف الحركة كثيراً، إذ كان تعدّد مراكز قوى الحركة، وتنوّعها الداخلي، إحدى سمات الحركة الأكثر أهمّية، وأحد عوامل قوّتها، اللذان مكّناها من لعب أدوار مختلفةٍ باختلاف الظروف والأوضاع، وباختلاف المواقع، كما مكّناها من لعب أكثر من دورٍ في الوقت ذاته.
بسبب سياسة الإقصاء والاعتقال، التي ينتهجها محمود عبّاس وبطانته، أُفرغت "فتح" من مراكز قوّتها، لتغدو مُجرّد واجهة للسلطة
أمّا اليوم، وبسبب سياسة الإقصاء التي ينتهجها عبّاس وبطانته، أُفرغت الحركة من مراكز قوّتها، بل من قوّتها ذاتها، لتغدو مُجرّد واجهة للسلطة لا أكثر ولا أقلّ، باستثناء بعض مكاتب الحركة الطرفية، التي لم تخضع حتّى الآن لسيطرة القيادة المركزية، كما في بعض كتائب الحركة في قطاع غزّة، ومواقف بعض قادتها داخل سجون الاحتلال، وبعض كوادر الحركة من الصفّ القيادي الثاني، ومن قاعدتها الشبابية والشعبية، الذين ما زالوا مُتمسِّكين بنهج الحركة الأساسي بعيداً عن تخريب قيادتها الحالية.
من ذلك كلّه تتمحور أزمة الحركة الراهنة حول جوهر دورها ووظيفتها، ومن ثم هي أزمةٌ عميقةٌ، كما أدّت سياسيات قيادة الحركة إلى تحويل الأزمة من أزمةٍ إداريةٍ يمكن تجاوزها عبر أطر الحركة الداخلية وقوانينها ونقاشاتها، إلى أزمةٍ تنظيميةٍ شاملةٍ، إذ أُفرغت الحركة من هياكلها، كما انتهكت قوانينها، حتّى لم يعد من سبيلٍ لتغيير مسار الحركة، أو حتّى تغيير هياكلها القيادية، إذ أحكمت القيادة الحالية قبضتها الأمنية والمالية. بناء عليه بات أمام وطنيِّي "فتح"، من قادتها وكوادرها، خياران لا ثالث لهما، كلاهما مرٌّ، وقد يعصفان بوجود الحركة، لكنّهما قد يحافظان على إرثها وتاريخها المُشرِّف، إمّا الانسحاب من الحركة التي سيطر عليها الجناح الاستسلامي والانهزامي المُهادن والحامي للاحتلال، ما سيؤدي إلى تقزيم الحركة أكثر فأكثر، وإمّا التمرّد على قيادة الحركة الحالية، وفصلها عن الحركة فصلاً نهائياً، أي نزع الشرعية التنظيمية عنها، ثم الشعبية، لأنّ نهجها يناقض نهج حركة فتح وتاريخها وإرثها. هذا الخيار قد يتمكّن من الحفاظ على الهيكل التنظيمي الفتحاوي نوعاً ما، في حدّه الأدنى، نظراً إلى افتقاده القدرات المالية التي تتحكّم فيه قيادة السلطة، فإن نجحت الحركة في التغلّب على عقبة التمويل (عبر التقشّف حيناً، والبحث عن مصادر تمويلٍ وطنيةٍ جديدةٍ حيناً آخر) فستعود حركةً تحرّريةً طليعيةً، وإن فشلت فقد نشهد نهايةً تليق بتاريخها في الأقلّ، لرفضها الخنوع لمسار الاستسلام والانهزام.