الحاج محمود حبيبة

26 يونيو 2015

محمود حبيبة.. رائد صناعة الكنافة النابلسية في عمّان

+ الخط -
ليست الكنافة حلوى رمضانية، فإنها تحضر في الشهر الكريم كما في كل المواقيت، وتأتيك في أي مزاج، في أعراسٍ بهيجة وفي مجالس عزاء حزينة. ونظنّها بساطة مكوناتها تتيح لك بساطةً في تناولها، ولعله صدق من اعتبرها ملكة الحلويات الشرقية. معلومٌ أنها نوعان، شامية ومصرية، ويندر أن تصادف من لا ينجذب إلى المتقَن منها، المصنوع بجودةٍ تيسّر المذاق الشهي الأصيل لها، إذ تحتاج جودة (مصنوعيتها) إلى كفاءةٍ خاصة، وإلى خبرة ودربة مؤكّدتين. ولا مجازفة في الزعم إن الكنافة النابلسية تفوق غيرها شهرةً، إلى حد أن غير عارفين بعلوم الكنافة وفنونها وتاريخها يظنون أنها نابلسيةٌ فحسب. ومقام هذا المقال في هذا الشأن، هنا، أن واحداً من أعلام الكنافة النابلسية ونجومها، توفي قبل أيام، هو الحاج محمود حبيبة، عن 88 عاماً. وفيما لا يحوز الرجل نفسه شهرةً عريضة، فإن "كنافة حبيبة"، و"حلويات حبيبة" استطراداً، إحدى المعالم الذائعة الصيت الحسن في الأردن، كما أن أهل الشام والخليج على معرفة طيبة بهذه العلامة الخاصة في عالم الكنافة الشرقية. 

هناك، في عمّان، في وسط البلد، في دخلة البنك العربي التي قد لا تحتاج إلى دليلٍ إليها، محل صغير جدا، صار من تقاليد زوار العاصمة الأردنية، والمتجولين في قاعها (أو صحنها؟)، غالباً، أن يمروا إليه، لتناول كنافة حبيبة، في الدخلة القصيرة التي لا تحسب شارعاً فرعياً ولا تعد زنقةً، أمام المحل، وليس في داخله الذي لا مطرح فيه لمن أراد الجلوس. تشتري صحنك من الكنافة الناعمة أو الخشنة، وتتداوله وحدك أو مع من معك، بشهيةٍ ومحبةٍ، ثم تمضي إلى ما أنت ماضٍ فيه. هو المحل الأول الذي أسسه، (فعل التأسيس هنا حقيقي وليس مجازياً)، محمود حبيبة، في عام 1951، وهو الذي كان قد وفد إلى الأردن في 1948، وكان في صباه الأول قد تعلم إعداد الكنافة في حارة الياسمينة في نابلس، وورث المهنة عن والده. كانت الدنيا غير الدنيا، وكانت تلك المحطة أول عبور للكنافة النابلسية إلى الأردن.

يقول الرجل عن تلك الأيام إنه لم يكن لديه رأسمال كاف، فيضطر أحياناً إلى الاستدانة، وكانت زوجته تغلي الجبن، وتنقّي المكسرات، وفي السادسة والنصف صباحاً يكون أول سدر كنافة جاهزاً. كانت صناعة الحلويات تتم بطرق بدائية ويدوية، غير أن محمود حبيبة ثابر من أجل تطويرها والإجادة الدائمة فيها، ولا سيما الكنافة التي تحتاج طرازاً خاصاً من الجبنة، وعلى ما يؤرخ الذّواقة وأهل الاختصاص، فإن النابلسيين هم أول من أدخلوا الجبنة إلى الكنافة التي كان مواطن سوري قد جاء بها إلى فلسطين، وإن تنسب مظانٌّ ومراجع صناعتها إلى الأتراك أولاً. على تلك الجبنة أن تكون من حليب البقر، لتصير مطاطية وتمغّط، وإليها في صناعة الكنافة، ثمّة حاجة إلى حليب وماء وسكر وخميرة، وما أن تتهيأ بعد نار مدروسة، تتزيّن بالفستق الحلبي، ويُزاد عليها القَطر.

أجاد الحاج محمود حبيبة في هذا كله، وأنعم الله عليه بالرزق، وقد أمتع عمّان ببهجة كنافته تلك، فأحدث، في العقود اللاحقة، فروعاً أخرى لـ "شركة حلويات محمود حبيبة وأولاده"، جديدها وأحدثها مجمع كبير في واحدةٍ من مناطق عمان الراقية. وقد تولى مسؤوليات ذلك كله، وقبله وبعده مسؤولية الحفاظ على شهية "كنافة حبيبة"، أبناء هذا الرجل وأحفاده، وهو الذي يُحسب صناعياً رائداً في الأردن. ومع وجود عائلات أخرى أتقنت هذه الصناعة، ومع جودة منتوج محلات أخرى عديدة، إلا أنه تُحسب للرجل عصاميته ورياديته التي أحدثت، والحق يقال، إرثاً اجتماعياً واقتصادياً، في الأردن، يدلُّ عليه أن تأشيراً إلى كنافة حبيبة صار لازماً في الدليل السياحي للعاصمة عمّان.

ما كنّا لنتعرف جيداً على منجز الحاج محمود حبيبة وصنيعه، وما طوّره في الحلويات والكنافة النابلسية، العمّانية أيضاً، من تميّز رائق وشهي، لولا أن الأخبار جاءت، أخيراً، على وفاته، رحمه الله.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.