لماذا أحببْنا جاسر الشوبكي
وجيهٌ كلُّ الوجاهة سؤالُ من يسألون من قرّاء العنوان أعلاه عمّن يكون جاسر الشوبكي، فليس صاحبُ هذا الاسم نجماً أو مشهوراً، أو حتى معروفاً، في السياسة أو الإعلام أو الرياضة أو الفنون. بل سيزيد التعريفُ به أستاذاً جامعياً أردنيّاً (متقاعداً) في الفيزياء من دواعي السؤال عمّا إذا كان يستحقّ أن تنشغل به مقالةٌ في صحيفةٍ عربية، سيّما وإن القول إنه كان محبوباً من طلابه وأصدقائه ومعارفه لن يسوّغ هذا، فهذه ميزةٌ لا ينفرد بها البروفيسور الشوبكي الذي رحل الأسبوع الماضي عن 84 عاماً. ولكن مرافعةَ هذه المقالة عن نفسِها تتسلّح بأن ما يُرى من مظاهر بؤسٍ وركاكةٍ في حضور الأستاذ الجامعي العربي في محيطِه العام، وفي مجتمعِه المحلي، على غير مستوى، "توجِبُ" الإضاءة على قيمة هذه القامة الأردنية العلمية والوطنية. ولعلّها تُسعِف صاحبَ هذه السطور بحجّةٍ راجحةٍ، على وجاهة القول عن البؤس والركاكة هذيْن، مصادفة التزامن بين ما جاءت عليه صفحات أردنيين عديدين في "السوشيال ميديا" عن نزاهة جاسر الشوبكي ومآثره ومناقبيّته العالية وما تحمّله وتعرّض له بسبب مبدئيّته وشجاعته، وما أشهرته صفحاتُ مغاربةٍ عديدينٍ من سخطٍ واسعٍ على سلوك عميد كلية العلوم في جامعةٍ في الدار البيضاء (أستاذ كيمياء) رفض تكريم طالبةٍ متفوّقةٍ في حفل المدرسة العليا للتكنولوجيا، لأنها كانت موشّحةً بالكوفيّة الفلسطينية. ومع التسليم بأن مقادير من المناعة ما زالت باقية في الجسم الأكاديمي في الجامعات العربية تُنجيه من مزيدٍ من التردّي، إلا أن حماية أسماء من هم من قماشة جاسر الشوبكي في غير جامعةٍ عربيةٍ من النسيان (والتناسي) ضرورةٌ ملحّة، في زمنٍ من شواهد دالّةٍ على تعاسته أن رئيس جامعة القاهرة، محمّد عثمان الخشت، يظهر في "مشهدٍ مُخزٍ" (التعبير لمحمّد البرادعي) في وسط الجامعة، بين جمهرةٍ من الطلاب، يغنّي ويهتف ويكاد يرقُص، يُغريهم بتسهيلاتٍ وإعفاءاتٍ (رشاوى بالمعنى الأصح)، في مقابل أن يتقاطروا إلى صناديق الاقتراع للتصويت مع تعديلاتٍ على الدستور المصري أجازت، في 2019، للرئيس عبد الفتاح السيسي تمديد عهدِه... انتخابياً.
كان جاسر الشوبكي الوحيد من أساتذة جامعة اليرموك (شمال الأردن) في ساحة اعتصام الطلاب في حرم الجامعة المطوّق بوحدات الأمن، مساء واحد من نهارات مايو/ أيار 1986، وكانوا يحتجّون غاضبين على إجراءاتٍ أخذتها رئاسة الجامعة. باشر اتّصالاته مع معارفه في مكتب رئيس الوزراء في عمّان، ومع أستاذه السابق في مدرسة السلط (وزميلِه لاحقاً في التعليم في مدرسةٍ في الكويت)، وزير البلاط في حينه، عدنان أبو عودة، من أجل فكّ حصار الجامعة، وعندما أخفقت محاولاتُه، انضمّ إلى الطلبة المُعتصمين (كما أساتذة آخرين)، وصار تالياً أن قوّةً أمنيةً اقتحمت الجامعة فسقط قتلى وجرحى. ولمّا عاد أستاذ الفيزياء النووية (أحرز الدكتوراه فيها من جامعة أميركية) إلى منزله (في الجامعة) في ساعةٍ متأخّرةٍ جداً من الليل، وجد أن قوةً من الأمن اقتحمتْه، وكان جمعٌ من الطلبة قد احتمى فيه... ومع تطوّر التوتّرات تالياً، جرى فصل 15 أستاذاً من الجامعة، أحدُهم جاسر الشوبكي (وكمال أبو ديب وهاشم السلعوس وعلي العتوم وغيرهم)، ثم سافر إلى صنعاء للتدريس ثلاث سنواتٍ في جامعتها، بعد وقتٍ من البحث عن عمل (قال عارفوه إنه حاول أن يعمل في محطّة بنزين).
... إنها واحدةٌ من محطّات عدة، مضيئة، في سيرة الكركي جاسر الشوبكي الذي درس بعض سنواتٍ في مدرسةٍ في طولكرم، ثم كانت له، في شبابه، صلاتٌ حزبيةُ وكان صاحب ميولٍ يساريةٍ وقومية، وحُسب على حزب التحرير من دون أن يكون فيه، واعتُقل في 1959، ورُفض تعيينُه مدرّساً في إربد بعد تخرّجه من جامعة بغداد التي كان مبتعثاً إليها لدراسة الفيزياء، بدعوى أنه كان شيوعيّاً... ليس المَقام هنا استعراض سيرةٍ حافلةٍ (حقاً) للأستاذ المحترم، وقد عرضها صديقُنا مهنّد مبيضين في مقالةٍ وافيةٍ، تَفيدُ منها هذه السطور، وإنما هو التشديد على أهميّة أن نعرف جميعُنا، ومن عدّة أجيال، أن نموذج جاسر الشوبكي (نصير العقل والعلم والحقّ والعدالة) مضادّ تماماً لركاكة نعمت شفيق، المصرية التي ترأس جامعة كولومبيا وناصرت الشرطة الأميركية ضد الطلبة المنتفضين تضامناً مع غزّة، وبؤس محمّد الطالبي، العميد وأستاذ الكيمياء المغربي، وتعاسة محمّد عثمان الخشت، أستاذ الفلسفة ورئيس جامعة القاهرة، وكثيرين من أمثالهم... رحم الله جاسر الشوبكي الذي أحببْناه.