"عجين الفلاحة" أفضل

13 مايو 2015

أنطوانيت: ليأكل الفقراء البسكويت إذا لم يكن خبزٌ (Getty)

+ الخط -
أثيرت في الصحافة المحلية الغزية، قبل أيام، قضية استخدام المخابز المياه غير الصالحة للاستخدام الآدمي في إعداد الخبز، حيث تحتوي على نسبة عالية من النيترات التي تتحول، بفعل حرارة الأفران العالية، إلى مركب (النيتريت) الذي يتفاعل مع الأحماض الأمينية الموجودة في جسم الإنسان، فيتكون مركب (النيروز أمينات) أحد المسببات الرئيسة لمرض سرطان المعدة، والذي ترتفع نسبته في غزة بصورة ملحوظة، حيث تسجل حوالي 117 حالة شهرياً، وهذه نسبة عالية قياساً بالإحصائيات العالمية، وعدد سكان غزة.
لقيت القضية استهجاناً وسخطاً من الشارع الغزي المكبل بهموم العيش الصعبة، وتندر العامة بما روي عن الملكة ماري أنطوانيت التي نسبت إليها المقولة "إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء فدعهم يأكلون بسكويت". وهذه السخرية تعبير عن واقع أليم، لأن الخبز هو الوجبة الأساسية التي تسد رمق الفقراء في غزة، ولا يستغني عنها الأغنياء، وكأن هذه الكارثة جاءت لتجعل الأغنياء يتقاسمون المرض مع الفقراء الذين يعانون ليجدوا لقمة العيش التي أصبحت ملوثة بمواد مسرطنة.
مع هذا الاستهجان والسخط، تحركت وزارة الاقتصاد مع سلطة حماية المستهلك لفرض رقابة على المخابز، ما جعلني أتذكر ما كان يحدث في مدارسنا، حين يتسرب الخبر عن قرب وصول وفدٍ أجنبي لبحث شؤون اللاجئين إلى المدرسة، فتسارع إدارة المدرسة لتنظيف الأحواش والحمامات القذرة ورش الأرضيات بالماء وتعليق اللوحات المخبأة في غرفة الناظرة، ورص أصص الزرع أمام الفصول. وكنا نتمنى، نحن التلميذات الصغيرات، أن تزور الوفود الأجنبية المدرسة كل يوم، لننعم بالنظافة والجمال كل الوقت. وذكّرني ذلك باستعدادات إدارة الحكم المحلي في حارة فقيرة في فيلم "زواج بقرار جمهوري"، لاستقبال زيارة رئيس الجمهورية، وما هبط عليها من نظافة وإصلاح للمرافق المتصدعة والمتهالكة، وإلغاء ذلك كله، مع إلغاء زيارة الرئيس، وهذا ما يحدث للأسف بخصوص هذه القضايا التي تمس حياة المواطن، فلا أحسب أن الرقابة سوف تستمر على المخابز، للتأكد من استخدامها المياه الصحية في إعداد الخبز طويلاً، وأنها ستعود إلى سابق عهدها، بعد أن تهدأ هذه "الزوبعة"، لأن شراء الماء سيقلل من ربح المخابز التي يهمها الربح، وليس مصلحة المواطن "الغلبان" وصحته، لأن مياه الشرب ملوثة أساساً، ويضطر السكان لشراء الماء الصالح للشرب من محطات تحلية، لا يزيد عددها عن ثلاث مرخصة من وزارة الصحة.
شممت رائحة التشفي من جارتي التي تعد الخبز في بيتها، لأنها تحصل، مثل معظم اللاجئين الغزيين، على عدة أكياس من الطحين مخصصات عينية من "أونروا"، حين قالت لي: طالما نصحتك أن تعدي الخبز في البيت، وأنت تتعللين بضيق الوقت. والحقيقة أن ضيق الوقت والساعات القليلة التي تعود فيها الكهرباء إلى البيوت تجعلني غير قادرة على إعداد الخبز في البيت، مثل كثيرات من العاملات في غزة. وازداد يقيني أن ما نجنيه من مال، بحثاً عن الراحة وتوفيراً للوقت، ندفعه من صحتنا، حين نشتري كل شيء تم صنعه بأيدي الغرباء. حالنا كما حال معظم الأسر العربية التي تخلت، بفعل الحضارة، عن إعداد الخبز في البيت، وأصبح خبز الطابون تراثاً، وتذوقه مناسبة لا تتكرر كثيراً، بعد أن كان من معالم بيوتنا، وكانت الجارات يلتففن حوله، يتبادلن المحبة والمودة، وليس الثرثرة والنميمة، كما هو حال الموظفات في المكاتب حالياً.
وتذكّرت نصيحة إبراهيم الفقي، واضع نظرية ديناميكية التكيف العصبي ونظرية قوة الطاقة البشرية، والذي أكد أن "عجين الفلاحة" الذي نسخر منه، وتصوره الأفلام العربية وسيلة عقاب أو قصاص، أفضل الطرق للتخلص من كروشنا المتدلية. ولذلك، علي أنادي: يا نساء العرب عامة، ونساء غزة خصوصاً، لتكسبن صحتكن ورشاقتكن عليكن بالعودة إلى "عجين الفلاحة".
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.