كنت إرهابياً في "ياكابو" حرام

23 ابريل 2015

لم تكن من لعبة نلعبها غير لعبة "الإرهاب" (Getty)

+ الخط -

كنا صبيةً، وصاح أحدنا لله درّه: تعالوا نكافح "الإرهاب المحتمل"، أيها الفرسان.

ولم نكن خيالةً، ولم تكن من لعبة نلعبها غير لعبة "الإرهاب"، فأي كُرةٍ، مهما بلغت من التقوى والحصانة وجودة الصناعة، لم تكن لتصمد بين أنياب أقدامنا الغاضبة، أو في وجه الحجارة الناتئة، سوى ساعةٍ من نهار، فليس في البلدة ملاعب معشبة، أو حتى حصيد زلق، ولا تلبث أن تتمزق، والكرة التي تصمد يمزقها أحد الجيران الغاضبين عقوبةً على إقلاق راحتهم بالصياح والزعيق. ولا مدرسة بنات نقف على ناصيتها، منتظرين خروجهن للطعان، ليس في البلدة حدائق أو مراجيح، ليس فيها مسابح، وليس فيها نهر، كان يوماً وحبسته تركيا بقيود، غضباً من سياسة حكومتنا غير الرشيدة.

أين سنذهب بهذه الكباش والعجول والنواعير غير المرئية التي تدور في دمائنا. ليس لها سوى الإرهاب.

الفصل في أول الصيف، وقد بدأت ثمار الكروم والبساتين بالضحك، وسال لعاب الدبابير التي انبثقت قفافيرها في كثير من حواري البلدة. صنعنا مذبّات خشبية مرتجلة، وحاصرنا القفير من ناحيتين، وبدأنا نحصبه ونرجمه بالحصى، ثم نلوذ بالفرار ونعيد الكرة. سنستأصل شأفة الإرهاب الأحمر الطنان.

من أول عاصفة حصباء، غلت الدبابير غضباً وحقداً، وأرسلت كتائب من الدبابير المحاربة؛ دبابير أباتشي، ودبابير توماهوك، ودبابير ستليث، ودبابير فانتوم وسوخوي. تقصف وتغير وتهجم وتحوم وتلحق بنا إلى تخوم الحارة. تحوّل العش إلى إعصار من الحشرات الحمراء الكنغر التي تتدلى أطرافها الخلفية، وكأنها تحمل حجارة سجيل. وبات الشارع محرّماً على المارة، بسبب الإرهاب المحتمل الذي صار حقيقاً. ما هي إلا لحظات، حتى بدأت الإصابة الأولى في صفوفنا، وولى فيها الصبي الأول، وهو يئنّ ويولول من الألم، ثم أصيب الثاني بلسعتين، لكن الكتيبة غير مبالية بالخسائر، ومصرّة على تدمير العش وإخراج رغيف يرقات الدبابير الذي يشبه قرص زهرة دوار الشمس. سنأكل اليرقات أكلاً لمَّاً.

تهدأ عواصف الدبور الحائمة في حمّارة قيظ الظهيرة، بعد ساعة من التحويم، فنعيد الكرّ قصفاً بالحصى. تحول المارة، وهم قلة في ساعة الظهيرة، إلى شوارع الأخرى هرباً. صلاة العصر تقترب، وهي أكثر الصلوات إقبالاً. يقصد الأعمى "سعيدي كور" الجامع، وينغمس في العاصفة الحمراء، غير مدرك الخطر الداهم، لكنه يعبر بسلامة من غير لسعة واحدة، ونحن نراقب بين آسفٍ وإرهابي شامت!

- هو ولي من ولي أولياء الله!

ربما يكون له تفسير علمي، فالدبابير تعرف أعداءها، أو هي تشمُّ رائحة عدوها. دبابير كلاب.

توالت الإصابات، وكثرت اللسعات، وانكفأ معظم الصبية متقهقرين أمام هجمات الذئاب الطائرة ولم يبق سوى البواسل وأولي العزم.

أمس، تابعت فيلماً وثائقيا على "الجزيرة" عن محاربي الياكابو الأشداء الذين يتدربون على القسوة بالهجوم على أعشاش الدبابير المعلقة بالأشجار مثل العثاكيل. بيننا وبين ياكابو عدة فروق: أولها أنّ نساءهم كانت تواسيهم، ولم تكن لنا نساء. وثانيها أننا كنا نفرّ ونكرّ على الأرض، بينما كانوا يصعدون سلالم، ويحاربون في الغابة، ونحارب في الحضر. وبالخبرة، أدركنا أنّ الانبطاح يقي من اللسعات، فالدبابير لها كبرياء، وتتجنب لسع المنبطحين المهانين، إلا أنّها، وهي ترى أشلاء أطفالها اليرقات ممرغة بالتراب، كان تندفع إلى لسع المنبطحين حقداً وغضباً أحيانا.

نعود منفوخين من كثرة اللدغات، يؤلمنا مسّ الهواء، والنظر، والشهيق والزفير، فننغمر بمياه الآبار، ثم نهدأ بعد ساعتين من الصراخ والبكاء، ونتجمع فلولاً موسومين بأوسمةٍ أورامٍ علقتها الدبابير على وجوهنا، تحت القمر، متذكرين يوما عبوسا قمطريرا.

ملاحظة: لم نكن نستخدم عبارة "الإرهاب المحتمل"، فهي من إبداعات الجنرال "القرني" إياه، ولكنني أعتقد أن عبد الفتاح السيسي اقتدى بي. وجب التنويه، فحقوق الإرهاب المحتمل و"الإرهاب غير المحتمل" الطارئ.. محفوظة.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر