قمّة البحريْن: الرجز والكامل
حقٌّ علينا أن نحمد مُخرِج حفلة القمّة العربية الـ 33 لإعجابه ببيت الشعر، مكتوباً بخط الثلث الجليل، الذي اختاره ملك البحرين عنواناً لقصر الصخير، فكان يعود إليه بعين الكاميرا الوالهة بين الفينة والأخرى، إنّ مَثَله كمَثَل السائقين، إنّهم كانوا يختارون بيتاً من الشعر، هو البيت الرائد، يدوّنونه على أقفية سياراتهم ومركباتهم، وصدور محلّاتهم ومجالسهم. وكان بناة الأندلس، طيّب الله ذكرهم، يدوّنون الأشعار على القصور، التي صارت آياتٍ للعالمين. وقرأت أنّ دخل إسبانيا من زيارة قصر الحمراء يبلغ ربع مليار دولار في السنة، من "خِراج" الزيارات، وكلّ لبنة فيها قد دُوّنت عليها آية، تجمع حكمة الدهر: وهي لا غالب إلا الله. أما ملك البحرين فقد اختار هذا البيت، وهو أغرب وأعصى بيت قرأته في حياتي، عنواناً لحكمته في الحياة والسياسة والبيان والعمران، لن يقدر البرقوقي ولا العكبري ولا الزوزني على شرحه وتفسيره: قصر أبو سلمان حاز العجبا/ تاريخه بالحرف يحسب تغلبا.
ليس في القصور أعاجيب مثل أعجوبة قصر تاج محل، ولا مثل قصر الخورنق، ولا قصر غمدان، فإنّما صناعة العرب هي الشعر، لكنّ بيت الشعر عجيب حقاً، وقد خلط الشاعر الكمي المكلّم فيه بين بحرين: الرجز والكامل، هذا عذب فرات، وهذا ملح أجاج، وبينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟
بيت شعر فذّ، على البحر الميت، فريدٌ، فيه أخطاء نحوية ووزنية وعقلية، لكنّه يصلح عنواناً للقمّة العربية التي رأينا حلقتها الـ 33، وما زال عرضها هو العرض المُضجر نفسه، لكن، ثمّة جديد، قليل، طارئ على العرض، والقليل نافل لا يضيف شيئاً، وهو مشهد نثر الورود على العرسان الفرسان، أصحاب الفخامة والسعادة، ومشهد ثانٍ؛ هو مشهد حرمان بشّار الأسد من الخطبة، فأنعم بها وأكرم من عطية! يبدو أنّه حضر ضيفَ شرفٍ أو "كومبارس"، وهو رئيس يُحبّ الفلسفة والرغاء، ومن غير أن يطلب منه إحضار ولي أمره معه. قال محلّلون كُثر إنَّ لهم حكمة وغاية، وهي نزعه من حضن إيران إلى حضن العربان.
وتفقّد القوم مُعمّر القذافي، الذي كان يُفسد الحفلات الملكية، ويُحوّلها مدرسةَ مشاغبين، كأن يدخّن في "الفصل"، أو يسخر من أحد الملوك العرب الميامين، فيطربنا. يقول المثل العربي: ما قلَّ سفهاء قوم إلا ذلّوا، لكنّ صاحبي يطلب منّي أن أعدل وأنظر إلى نصف الكأس المليء، فنظرت نظرة في النجوم، فلم أجد الكأس، وإنّما وجدت شظاياه، والماء مُراقاً، ووجه الأفق قد راقا، فقال: حسبك من كبارنا، وهم جميعاً يلحنون، إنّهم لم يدينوا أهلّ غزّة، فقلت: لكن عبّاسهم دانها، فقال: حسبك أنّهم اجتمعوا متآخين متحابّين، على قلب عبّاس واحد، وقد غفروا لأخيهم بشّار قتله مليون سوري، وتشريده نصف الشعب السوري، مثبتين أنّهم حلماء، كرماء، يحبّون العفو عند المقدرة.
وقيل إنّهم دعوه سرّاً عسى أن يقنعوه بالتوبة عن تجارة الممنوعات. وتحدّثنا عن خطبهم العصماء المُخدّرة التي تصلح للتنويم والتخدير، أليست قمّة المنامة؟ كأنّي بهم يهمّون بعمليات جراحية للأمّة؟ وإنَّ أفضل خطاب في القمّة هو خطاب أنطونيو غوتيريس، سوى أنَّ لغته خالية من الألحان، لأنّه خطب بالإنكليزية، وذكَّر فيها بأمجاد العرب في الأندلس.
وفي بيت الشعر خطأ نحوي، فالصواب أن يقول الشاعر: قصر أبي سلمان، فقال صاحبي: يجوز في الشعر ما لا يجوز في النثر. وقد مزج الشاعر الفحل بين بحرين هما بحر الرجز والبحر الكامل، وبحر الرجز هو حمار الشعراء، وشتّان بين الحمار والفرس، فأحالني صاحبي إلى بيتٍ لعنترةَ بن شدّاد يمزج بينهما، فيقول: إنّي امرؤ من خير عبس منزلاً/ شطري وأحمي سائري بالمنصل. فقلت: فما بال تغلب هنا؟ أيكون الشاعر البسوسي بكريّاً حاقداً على تغلب، وترحّمت على الخليفة المهدي وهو يقول للمفضّل الضبّي: "يَا مفضّل أسهرني البارحة قَول ابْن مطير الْأَسدي: (وَقد تغدر الدّنيا فيضحي فقيرها/ غنيّاً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها)". وقد جاء في الأثر النهي عن إنزاء الحمير على الخيل، لكنّ صاحبي حَمِد القمّة بأنّ حمار الرجز النازي على فرس الكامل سكت عن النهيق، وتلك فضيلة ما أحمدها من فضيلة!