شتاء الفقراء

14 يناير 2015
+ الخط -

لم تكن تشعر بالألم من الجبيرة في ساقها، ولا اللفافة برأسها، بقدر ما كانت تشعر بالسعادة، لأنها استطاعت إنقاذ دجاجاتها، قبل أن ينهار فوقها القن، بسبب الرياح العاتية والأمطار الغزيرة في غزة في الأيام الماضية، فهرعت لإنقاذها، ما تسبب بتزحلقها على الأرض الموحلة الزلقة، وارتطام لوح من صفيح سقف القن المتطاير برأسها، لكنها، ومن على سريرها في المستشفى، كانت تحمد الله أن دجاجاتها كتبت لها النجاة، وحلت ضيفات في قن دجاجات جارتها، فهي تعتاش من بيع بيضها في سوق المدينة.
إنه شتاء الفقراء، بطقوسه وعاداته ومخاوفه وأمثاله الشعبية وتدابيره الاحترازية، والتي نهضت من ذاكرة الفقراء، هذه الأيام، بسبب الظروف القاسية في غزة، خصوصاً بعد الحرب، وعادوا ليمارسوها كما مارسها آباؤهم وأجدادهم.
في العام 1979، وكنت أبيت في طفولتي في بيت جدي لأمي، استيقظت في ليلة شتوية عاصفة على صوت جدي، وهو ينادي جدتي مبتهجاً، ليعلمها أن نعجتهما وضعت جدياً، فقفزت من فراشي، ولحقت بجدي وجدتي في الحظيرة، ورأيت الجدي الصغير بين ساقي أمه الخلفيتين، فتحسست ظهره في حنو وشفقة. صاح بي جدي ألا أفعل، لأن تحسس ظهره سيجعله لا يكبر بسرعة، وهو يأمل أن يكبر الجدي ليبيعه، ويستفيد من ثمنه، وتلفت نحو جدتي صائحاً، لتساعده في إشعال الحطب لتدفئة النعجة ووليدها.
وطالما نهتنا جدتي عن العبث بالنار، مستخدمين الأداة الخاصة بتحريكها "المصناع"، حين كنا نفعل ذلك، وتنذرنا بأن من يلعب بقطع الحطب المشتعلة في جوف فرن الطابون سوف يبلل فراشه، في أثناء نومه. وذلك لم يمنع حبنا حكايا الجدة حول الفرن، ولا تلهفنا لفطائر تعدها حين يحل البرد، والتي تمد أجسامنا الغضة بالدفء، فكان قوام فطائرها زيت الزيتون والحبة السوداء، وهي فطائر اشتهر بها اللاجئون الذين هجروا من القرى خصوصاً، وما زالوا. وكانت جدتي تخوّفنا من إصابتنا بالعمى، إن نمنا بجواربنا الصوفية في ليالي البرد، وتداوي أصابعنا المتورمة من "قرصة البرد" بدهنها بالكاز، وتداوي الرشح بالشاي الساخن، المضاف له قطرات من الليمون، وقد أثبت الطب نجاعة هذه الوصفة، حيث تتكون مادة "الكافيك أسيد"، نتيجة اختلاط الليمون مع كافيين الشاي أو القهوة، وهو مسكّن سريع وناجع للألم. وكانت جدتي ترفض تناول أدوية الرشح، متعللة بأن حبة الدواء التي تستقر في البطن لا يمكن أن تداوي الرأس وسيلان الأنف!
في ليالي الشتاء، لم أكن أشعر بالدفء، إلا حين يلقي أبي روبه الشتوي فوق أغطيتي، ويخلد للنوم في غرفته. وفي ليلة ماطرة، كان صوت الرصاص ينطلق من بعيد، وسمعنا قرعاً لجرس الباب، لم ينقطع طول الليل، بكينا خوفاً من أن يكون جنود الاحتلال الإسرائيلي خلف الباب، وظل أبي يضرب أخماساً في أسداسٍ، فهو يدفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف والضرائب بانتظام، ولا يوجد لدينا شباب يرشقون الحجارة، فإخوتي كانوا صغاراً، وتعجب أن الجنود تحلوا بالأدب، ولم يكسروا الباب كعادتهم، حتى انبلج الصبح، واكتشف أبي أن ماسّاً كهربائياً أصاب جرس الباب، بسبب تسرب ماء المطر، وضحكنا كثيراً من ليلة رعب عشناها.
ما يخلفه المطر والريح من دمار وتشرد وموت للبشر والحيوانات، يجري المثل الشعبي على ألسنة الغزيين، والذي ردده جدي للتعبير عن المصائب التي لا تأتي فرادى، بل تكون كل كارثة أصعب من سابقتها. والمثل: "طلعنا من دلف لمزراب"، والدلف تساقط المطر من سقف البيت المتهالك المثقوب فوق رؤوس السكان الفقراء، والمزراب مجرى الماء الذي يحفر لتمر منه مياه المطر من فوق أسطح البيوت، أو بين أزقة المخيم.
خفت كثيراً ألا أكبر، لأن جدّيّ لم يكونا يتوقفان عن تحسس رأسي وظهري، مثلما فعلت مع الجدي الوليد.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.