يكاد زيتُها يضيء

09 نوفمبر 2022

(نبيل عناني)

+ الخط -

ما إن يحلّ ويهلّ موسم قطف ثمار الزيتون، حتى تتنهد بحسرة، وتملأ صدرَك آهات الألم واسترجاع الذكريات، فيما يتباهى أصحابك ومعارفك البعاد ويتفاخرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، باحتفائهم بهذا الموسم، إما بتوثيق صورهم في أثناء قطف الزيتون من على أغصانه أو في أثناء عصر زيته في المعاصر الحديثة، وحيث يسيل السائل الذهبي الذي يكاد يضيء.

وأنت تتكوّر في زاوية بيتك الضيقة اليوم وتسترجع الذكريات، وكأنها كانت قبل ساعة، ولبؤسك فأنت تشعر كأن ألما قد غزا راحتيك وتشققتا، وعلتهما طبقة من الغبار المحبّب، لأنك عائد للتوّ من تحت الشجرة العتيقة والوحيدة القابعة مثل وحش أسطوري في الركن الغربي من حديقة البيت الواسعة، فلا بدّ وأنت تفعل ذلك أن تنظر بعين الحنين إلى جدّك العجوز، وهو يبرم اتفاقا مع الجار الشاب الفقير، والذي يبدو كمتسوّل بملابسه الرثّة وتسمع طرفا من هذا الاتفاق، وهو أن الجدّ قرّر أن يترك مهمة قطف ثمار زيتونته الوحيدة، وبعدما نال منه العمر، وبدأنا نحن أحفاده بالتكاسل عن مهمة قطف الزيتون لهذا الجار، وابنه اليافع مقابل مبلغ نقديٍّ مجز، فالمهم أن يجمع الثمار كلها، وينظّف المكان جيدا، ولا يترك لجدّي أي مهمة سوى الإشراف على حمل الأكياس المعبأة بثمار الزيتون إلى المعصرة، ومتابعة أجمل مشهد في حياته، وهو مشهد سيلان السائل الذهبي الذي يكاد يضيء.

عاما بعد عام، لم نعد نذكر أننا نمتلك شجرة زيتون عجوزاً، لا تلقى أي عناية ولا اهتمام، سوى حين يفد ذلك الجار رثّ الثياب مع ابنه الذي بدأ شاربه ينمو تحت أنفه، فيبدأ منذ بداية النهار حتى مغيب شمسه في تسلق الأغصان وجمع الثمار وتسليمها في أكياس من الخيش لجدّي، والذي ينقده المال، فيذهب لا يلوي على شيء، ولكن الأعوام تلك قد انقضت، فمات جدّي ورحلنا من البيت الواسع، وأصبحنا نقطن عمارة إسمنتية بلا حديقة، فتبدو كغصن مقطوع بلا جذور، ولكني لمحت جارنا الذي كان يقوم بالمهمة الشاقّة مرّة كل عام، يقود سيارةً فارهةً من أمام العمارة الجرداء، وأنت تستطيع وصف كل بيتٍ لا تحيط به حديقة، وبها شجرة زيتون واحدة على الأقل، بأنه مثل الصحراء الجرداء تماما.

حين عرفت أخبار الجار الذي لم أكن أبدا أشعر بالراحة نحوه، فيما أرى نظرات الطمع والجشع في عينيه، ويبالغ في طلب أكواب الشاي الغامقة، وحين أضع أحدَها أمامه، لم يكن ينطق بكلمة شكر، بل كان يتأفف ويردّد أمامي فقط أنه سوف يصبح يوما مالكا عشرات الأشجار من الزيتون، ولم أكن أعرف كيف أصبح كذلك فعلا، وإنْ كان قد تعرّض للاعتقال والسجن مرارا وفترات قصيرة إبّان الانتفاضة الأولى.

ووصل بي قطار الذكريات، وأنا أتابع صور الأصدقاء في موسم قطاف الزيتون عبر مواقع التواصل الاجتماعي لجارة عجوز، كانت تعيش وحيدة، ولم يكن لديها مصدر رزق، ولكنها كانت دائما تمتلك الكثير من جرار الزيتون المخلّل وعبوات زيت الزيتون، وقد أخبرتني جدّتي، وكانت صاحبتها، بأن أحد الأثرياء يترك لها شجرة زيتون عملاقة في أرضه فتقطف ثمارها في موسم القطاف، وتأخذ ما عليها من ثمار بكميات متفاوتة كل موسم، ولم تكن تترك شيئا إلا واستفادت منه حتى النوى، وما يطلق عليه "الجفت"، فهي تجفّفه وتستخدمه بديلا للحطب، لكي تخبز خبزها على الطابون، وتستدفئ بناره طوال الشتاء. ولم أكن قد سمعت عن مصطلح الجفت قبل ذلك، حتى كبرت وعرفت أنه يعدّ ثروة اقتصادية، لأنه يستخدم بديلا للوقود، وقد توقفت دول عديدة منتجة للزيتون عن تصديره، نظرا إلى زيادة الطلب المحلي عليه، وحيث أشار خبراء ومختصّون إلى أن 30 ألف طن من الزيتون تنتج ما بين 120–150 ألف طن من الجفت، ما يعادل نحو 55 ألف طنِ ديزل. وتأكد بذلك فعلا صدق وصفه تعالى "يكاد زيتُها يضيء".

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.