اختفاء بائع متجوّل في سوق النصيرات
قادني الفضول للتعرّف إلى ذلك الشاب الذي يبدو في أواخر العشرينيات، وفي الوقت نفسه يملأ الشيب لحيته النابتة في غير تهذيب، وقد كان ذلك الفضول من خلال أسلوبه في كتابة منشورات نارية على صفحته على "فيسبوك"، وحيث نوّه أحد المعلقين بأن الشاب الذي يصف حال النازحين بدقّة متناهية وبسخرية لافتة لم يتلقّ تعليماً، وأنه يعمل في أعمال حرّة بسيطة، لا تكفي إلا لما يسدّ رمق اليوم فقط. ولذلك كان عليّ أن أتعرّف إليه أكثر، حيث عرفتُ أنه يتحدر من حي الشجاعية، أحد أحياء غزّة القديمة، والتي يحمل رجالها صفات من مسمّاه، وإنْ لا يخلو "الشجاعية" من إعلاء للذكورية، وشعور الرجل منذ صغره بمسؤوليته عن نساء عائلته.
عرفتُ أن الترحال والنزوح قد حطّا به في مدينة رفح، مثل آلاف النازحين من شمال قطاع غزة، وأنه تنقّل قبل ذلك في منطقة وسط القطاع، ثم اضطرّ للنزوح من رفح والاستقرار في مخيّم النصيرات، وأقام خيمة من قماش مهترئ تأويه مع عائلته الصغيرة المكونة من زوجته وأطفاله، فيما استطاع أن يقيم خيمة أفضل حالاً تضم أمه وباقي إخوته الذين يصغُرونه سنّا، والذي يعدّ هو المسؤول عنهم منذ توفي والده قبل سنوات بعيدة.
تعجّبت من هذا الشاب، كونه يحرص على الوجود عبر فضاء الإنترنت، رغم صعوبة الوصول إليه، فهو يسير مسافة بعيدة على قدميه لكي يشتري بطاقة اشتراك يبيعها صاحب أحد المقاهي المتواضعة، ومن خلالها يتواصل مع العالم، فيسبّ ويشتم ويعبّر عن حال النازحين بلغته البسيطة، والتي تقع في قلبك فتؤلمه، وتصيب روحَك بخدوشٍ لا تفعلها أحاديث المحللين السياسيين، ومن يحاولون وصف بؤس الحال بين آلاف النازحين.
قال لي بالحرف إنه يشعُر براحة كبيرة حين يكتب بكل وضوح، ومن دون أن يختار كلمات بليغة. وغالبا ما يكتب بالعامية، فيصف كل ما يعيشه، هو وأمثاله، في خيم النزوح، ثم يغادر هذا العالم الافتراضي، ليعيش في عالمه الحقيقي، حيث يبحث كل عدّة أيام عن بضاعة جديدة ليبيعها، ويحصل على قروش جديدة، فالمهم ألا يعود إلى الخيمة، ويقصد خيمة أمّه المسنّة المريضة، قبل أن يعود إلى خيمة زوجته وأطفاله وفتحها بيدين فارغتين.
تباعد الحديث بيننا، لأن الحال لم يتغيّر، فهو يشكو من الحشرات والحرّ، وقلة الماء وتلوّثه كل يوم ويسبّ ويشتم، ثم يغادر هذا الفضاء، لكي يبيع بعض الحلوى الرخيصة للأطفال الفقراء المتقافزين بين حبال الخيام. ولا ينسى أن يُخبرني بأنه يغير بضاعته حسب المتوفر في الأسواق، فهو يحصل عليها عن طريق تجّار كبار ربما خزّنوها واحتكروها، وربما اشتروها من تجّار خارج القطاع، واستلموها من المعابر التي يسمح الاحتلال بعبور البضائع من خلالها.
أخبرني، قبل أسبوع، بأنه بصدد إنشاء مشروعه الخاص، فقد تعب واستنزف من جشع التجار وقلة الربح الذي يحصل عليه، لأنه يشتري البضاعة بثمن مرتفع، ولا يستطيع أن يحصل على ربحٍ مرتفعٍ من فقراء أمثاله. ولذلك سوف يشتري حافظة صغيرة تستطيع الاحتفاظ بالمأكولات مبرّدة عدّة ساعات، وسوف يحصل على ماء جرى تبريده من خلال ألواح الطاقة الشمسية المنتشرة بديلاً عن الكهرباء. وبإضافة القليل من السكر وصبغة صفراء وبضع قطرات من الليمون ونكهة أخرى تعطي مذاق الليمون سوف يحصل على شرابٍ منعش يعرف في غزّة باسم "البرّاد" لأنه، حسب تعبيره، يبرّد على القلوب في الجو الحار، وسوف يبيع هذا الشراب في أكواب بلاستيكية شفّافة، ويرفق كل كوب بعود امتصاص شفّاف رقيق أيضا.
راقت لي الفكرة كما تخيّلتها، وقبل يوم من أحداث مجزرة سوق النصيرات، أخبرني مبتهجا بأنه استطاع تدبّر دواء أمه، وأنه لا يهمّه أي شيء في هذا العالم سواها، وأنه سوف يذهب في الصباح إلى سوق النصيرات، أملا ببيع بضاعته الجديدة في وقت أسرع، بسبب حرارة الجو وزحام النازحين. ولكنه لم يخبرني بأنه لن يعود، وأنه سوف يتحوّل مع أمنياته وأحلامه إلى أشلاء.