ولدتُ يوم قُتِل أبي

01 يناير 2025

(حسين ماضي)

+ الخط -

تلك النظرة لا يمكن أن تُنسى، حين جلس ذاك الطفل ذو الأربع سنوات في حِجر الجدّة العجوز، التي تغضّن وجهها بحزن دفين، وحين قالت وهي تلهث: لقد وُلِد هذا الصغير يوم قُتل أبوه. لا يمكن أن أنسى تلك النظرة ولا العبارة المُقتضَبة، التي قالتها تلك المرأة الثاكل، فاختصرت حكايةً طويلةً، هي أنها فقدت ابنها، إذ قُتِل برصاصة من جنود الاحتلال بين أزقّة المخيّم، ففي اليوم نفسه، كانت زوجته تعاني آلام مخاض متراوحة، حتى إذا ما حلّ المساء، وأعلن الجنود فرض نظام حظر التجول الليلي على المخيّم كانت الآلام قد ازدادت، ما حدا بالزوجة وأمّ الزوج إلى التسلّل بين جدران البيوت المتهالكة، حتى وصلتا إلى عيادة طبّية صغيرة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). لكنّ القلق (وربّما الشوق) استبدّ بالزوج الذي ينتظر مولوده الأوّل، فحاول أن يحذو حذوهما، ويلحق بهما بالطريقة نفسها، ولكنّ جنديّاً راجلاً بين الأزقّة عاجله برصاصة في قلبه، فسقط مضرّجاً بدمه، فيما كان صغيره يصرخ صرخته الأولى في سرير بارد، في عيادة قليلة الأثاث متواضعة الإمكانات.
هكذا قالت الجدّة باختصار: هذا الحفيد جاء إلى الحياة يوم قتل أبوه تحديداً، ولم تحاول إعادة الحكاية نفسها، التي نعرفها جميعاً، ولم نشأ أن نذكّرها بحادثة أليمة، ولكنّ نظرة الطفل لا يمكن أن تُنسى، وهو ينظر نحو وجوهنا وكأنّه يرغب أن يحكي لنا حكايةَ وجعه الصغير، وأنه لم يرَ وجه أبيه إلا صورةً معلّقةً على جدار مشروخ، في بيتهم ذي السقف الذي ينزف ماءً في الشتاء طيلة الوقت، وهو لا يدري لماذا كانت صورة أبيه باهتةً، رغم أنه لم تمرَّ عليها سوى خمس سنوات، فهي صورته يوم حفل زواجه من أمّه، ولكنّه لا يعرف أن صور الموتى كلّها تتحوّل صوراً رماديةً باهتةً على الجدران، وكأنّها تقول للأحياء إنهم حزنوا لفراقهم، حتى بهتت صورتهم، وتوجّعوا كثيراً في رحيلهم، لأنه كانت لديهم كثير من الأشياء كي يفعلوها، مثل هذا الأب الذي كان يحلم بأن يشمّ رائحة طفله، ورائحة المواليد لا تُقاوَم، فأنت تشمّ رائحةَ الحياة البِكر التي لم تلوّثها يد البشر بعد، وتشمّ رائحة الطهر والبراءة، ورائحةَ أكثر الأماكن اتساعاً وأماناً، وهو رحم الأم.
نظر إلينا الطفل الصغير تلك النظرة التي لا يمكن أن أنساها، ولُمتُ نفسي على سذاجتي وغبائي معاً، لأني حاولت مثل باقي النسوة الملتفّات حوله وحول الجدّة اللاهثة بلا توقّف أن نداعبه ونلاعبه، وقد استلّت إحدانا ورقةً نقديةً كبيرةً ووضعتها في يده، فيما أخرجتُ قطعة حلوى مغلّفة بورق مفضض زاهي اللون من حقيبتي ووضعتها أمام ناظريه وابتسمت، وقد ابتسم الصبي فعلاً، ولكن تلك النظرة لم تختفِ، بل تنحّت قليلاً في انكسار لا يُخفى، وما زالت تقول لنا: يا أغبياء! أنا لم أرَ أبي، وكلّ ما تقدّمونه لي لا يساوي اللحظة التي كان يمكن أن يضعني فيها في حضنه، ويشمّ رائحتي، قبل أن تغسل جدّتي العجوز التي ترونها جلدي الطري بالماء والصابون، وتضع بعض الزهور والرياحين في الماء لكي تصبح حياتي خضراء حسب اعتقادها، وقد فعلت ذلك فعلاً، وبعد مرور أسبوع على ولادتي، وكانت دموعها تسقط فوق الرياحين، وكنت أوشك أن أقول لها إن حياتي لن تكون جنّةً خضراء، بل صحراء قاحلة، لأني ولدت يوم مات أبي.. يوم قتلوا أبي.
في مستشفى متواضع بوسط قطاع غزّة، الذي يشهد أبشع محرقة عرفها التاريخ، كان هناك طفل آخر يصرخ صرخته الأولى، فيما كان أبوه يلفظ أنفاسه الأخيرة عند باب المستشفى، وقد كان ينتظر أن يرى مولوده الأول، ولكنّ الغدر والحقد كانا له بالمرصاد، فمات محترقاً، ولم تبقَ منه سوى جثّة متفحّمة، وحلم حلّق في السماء بأن يشمّ رائحة ابنه الأول، الذي سمّاه الآخرون "أيمن أيمن الجدي".

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.