الميت الحي في غزّة

19 يونيو 2024
+ الخط -

ربما كانت أولى خبراتي بالموت تجربة موت جدتي لأمي. وقد كنتُ ربيبتها، ولشدّة حبّي لها، صدّقت إشاعاتٍ كانت تروّجها النساء المتشحات بالسواد في بيت العزاء، وفي المساء، وحين ينفضّ مجلسهن، تعود أمي لتداول تلك الإشاعات مع خالتي، وينمن والدموع في وجوههن، ويتركنني أفكر وأحملق في السقف، وأتشمّم رائحة غرفة جدّتي، وأتخيّلها قد دُفنت حيّة، وكيف سيكون حالها حين تستيقظ وتجد نفسَها في حفرة مظلمة وضيقة.

تحدّثت النساء في بيت عزاء جدّتي كثيراً عن موتى دفنوا وهم أحياء، فهناك امرأة حامل دُفنت ولم تكن قد ماتت فعلاً، ولكنها أصيبت بحالة إغماء، وظنّ الجميع أنها ماتت، حتى سمع حارس المقبرة صوت بكاء وليدٍ في ليلة دفنها، فأسرع إلى القبر وفتحه فوجد المرأة قد اعتدلت من نومتها لتُرضع صغيرها. وعلى الرغم من سذاجة الرواية، فإنها ظلت متداولة، وبقيتُ أفكّر كل ليلة، بدءاً من الليلة الأولى لموتها، بأن جدّتي الحبيبة لم تمُت، وأنهم تعجّلوا دفنها، وقرّرتُ بيني وبين نفسي أن أذهب إلى القبر، وأقف إلى جواره، وأتسمّع جيداً لما قد يصدُر منه. وقد فعلت ذلك في أثناء عودتي من المدرسة ذات ظهيرة، وحيث خلتُ الطريق إلى المقبرة، وكانت المقبرة ذاتها صامتة وموحشة. وعرّجتُ على قبر جدّتي الذي لم يكن قد بُني بالحجر، ووقفت عند موضع القدمين وأرهفتُ السمع، ثم لم أسمع شيئاً. وبقيتُ على حالي حتى نال منّي التعب، فجلستُ ثم نال مني أكثر فنمت، ولم أستيقظ إلا على صوت جدّي وهو يلكزني، وحوله أصوات أعرفها لأشخاصٍ تعبوا في البحث عني.

مرّت الأيام، ولم أنس تأنيب أمي وأبي لأني جازفتُ بالذهاب إلى المقبرة البعيدة وحدي. وظل لدي اتهام صامت نحو الجميع أنهم قد تعجّلوا دفن جدّتي التي أحبّها، حتى كبرتُ وعرفتُ أنني تمسّكت بهذه الإشاعة لشدّة حبي لها، ولم تتوقّف مثل هذه الإشاعات التي كنت أسمعُها في صمت.

عادت تلك الذكرى المؤلمة إلى ذاكرتي قبل أيام، وشعرت بإحساس الأب الذي كان على وشك أن يدفن طفله وهو يظنّ أنه ميتٌ، مثل باقي الموتى الذين سقطوا في أحداث مجزرة النصيرات أخيراً. وفي اللحظات الأخيرة، لمح حركة ذراع طفله، فصرخ في لهفة: "لسّه عايش"، فأسرع المحيطون به إلى المشفى، وأودعوه هناك عدّة أيام حتى مات.

تركنك هذه القصّة المحزنة لحزن عميق، وقهرٍ لا يوصف، وأنت تتخيّل شعور الأب وهو يتمسّك بالأمل، بأن طفله سوف ينجو، وتتخيّل قلبه يتقافز قبل قدميه، ويهرول قبل ساقيه ليحمل طفله إلى المستشفى، ويحيا بين الأمل والرجاء، حتى يخبوا، ويعود لكي يدفن طفله ويُدرج اسمه بين أسماء الأموات. ويعتصرك الحزنُ أكثر حين تسمع عن قصة أخرى أكثر وجعاً لأبٍ مكلوم، كان يتمسّك بخيط واهٍ من أمل، فقد أحد أطفاله بمرض السرطان قبل عامين، وفقد طفلتين في مارس/ آذار الماضي، وأصيب آخر الأبناء إصابة بليغة في رأسه، وأخبره الأطباء بأنه قد مات، فذهب لكي يحفر له قبره، وحين عاد ليحمله ويواريه الثرى وجده جالساً باكياً بين الجثث، فهرَع إليه وحملَه إلى المستشفى ثانية، وهو يردّد بصوتٍ مرتجفٍ للأطباء: "ابني لسه عايش". ... ولكن الأمل انتهى بعد أيام أيضاً حين مات الطفل، بعد إيداعه غرفة العناية المكثّفة، وعجز الأطباء عن إنقاذ حياته.

تعود ذكرى وفاة جدّتي، وتلك الإشاعة التي جعلتني أخاطر بنفسي وأقتحم عالم المقابر المخيف، بكل ما تحاك عنه من حوادث مرعبة ما بين الخيال والحقيقة. وتعود الذكرى مع كثرة القصص التي تتردّد عن الموتى الأحياء أو الأحياء الذين يموتون بعد إعلان أنهم على قيد الحياة بقليل، وأتخيّل مشاعر ذويهم، وأتخيّل مشاعرهم هم أنفسهم لو استطاعوا التعبير عن فرحتهم بعودتهم إلى أحبّتهم أم سيقتلهم الخوف ثانية، لأنهم واثقون بأنهم سيرحلون بعد فسحة من أملٍ أو مزاح ساخرٍ من الموت.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.