يحدُث في صحافة تونس
المعهود في كل الدنيا أنه عندما ينكشف مخطّط (أو تدبير) لاستهداف رئيس أي دولة، باغتيالٍ أو ما شابه، فإن بيانا رسميا مُحكَما تُصدره جهةٌ أمنيةٌ عليا مختصّة، أو ديوان رئيس الدولة، يبلغ الجمهور العام بهذا، وبما تجيز ظروف التحقيقات بنشره، في قنوات إعلام الدولة ووسائطها. أو يحدُث أن تتكتّم السلطة، فلا تعلن شيئا، أو ترجئ ذلك إلى وقتٍ تقدّره. أما إذا رأت الأجهزة المختصّة أن "تُسرّب" الخبر، عن محاولة قتل الرئيس وإحباطها، إلى منبر إعلاميٍّ محدّد، فإنه، على ندرة حدوث هذا، يلزم أن تكون كل معلومةٍ في "التسريب" منسوبةً إلى مصدرٍ واضح مسؤول، معيّنٍ باسمه ومنزلته .. وليس هناك ما هو أتعس علينا، نحن أصحاب التعاليق في الصحافة، من أن يتشاطَر واحدُنا على القارئ بالبديهي، من قبيل هذا الأمر، غير أن الذي يفد إلينا من تونس من عجيب الأخبار وغريبها يورّطنا في سلوكٍ كهذا.
نشرت صحيفة الأنوار التونسية "تقريرا" يشتمل على تفاصيل، مثيرةٍ جدا، عمّا كتبت إنه مخطّط لاغتيال الرئيس قيس سعيّد عبر صاروخ أرض جو وصل إلى مدينة جربة، يوم 8 أيار/ مايو 2020 (قبل أكثر من عام!)، ضمن شحنة أسلحةٍ من تركيا، وانتقل إلى العاصمة. وأنّ سعيّد تحاشى، لهذا السبب، ركوب الطائرة بعد زيارته فرنسا، في يونيو/ حزيران 2020. وبحسب الصحيفة، بدأ الكشف عن هذا المخطّط بتفكيك حاسوب رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، فقد عُرف منه باتصالات الأخير بالرئيس التركي أردوغان ومسؤول كبير في "الإخوان المسلمين" في لندن و"الموساد" (المخابرات الإسرائيلية). وحسب الذمّة الواسعة للصحيفة التي لم تنسب "معلوماتها" بالغة الخطورة إلى أي مصدرٍ رسمي، فإن "قاعة عملياتٍ في تركيا لتنفيذ المخطط، وشبكة من عناصر الموساد دخلوا تونس، وثمّة استنفار داخل تل أبيب لإيقاف بعض المتعاونين معها في تونس".
تغشاك أرطالٌ من الدهشة وأنت تقرأ هذه المعلومات الحسّاسة جدا، تنشرُها صحيفةٌ سيّارةٌ بلا أي التزامٍ منها بأبسط أعراف الصحافة، من قبيل نسبة ما "كشفته" إلى مصادره الأمنية والاستخبارية. وفي الوسع أن يقال هنا، وبلا أي مبالغة، إن "الأنوار"، إذا صحّ ما جاءت به، تستحقّ أرفع جوائز الصحافة في العالم، ذلك أنها ربما تتفوّق، في الذي "انفردت" بنشره على "واشنطن بوست" في كشف فضيحة تجسّس الرئاسة الأميركية على الحزب الديمقراطي (ووتر غيت) في العام 1972. وعندما تُسارع حركة النهضة إلى رفع شكايةٍ عاجلةٍ ضد الصحيفة وكاتب التحقيق (الكاذب على ما وصفته)، فإنها تتّبع الصحيح، سيما أن من العجب العُجاب أن لا تبادر الجهات المختصّة إلى التحقيق مع الغنوشي (الحصانة مرفوعة عنه بحسب إجراءات قيس سعيّد الاستثنائية)، فيما الدولة على علمٍ بأنه باشر اتصالاتٍ مع "الموساد"، وأنه ربما على شراكةٍ (أو دراية أو..) بمخطّطٍ لاغتيال رئيس الجمهورية. والمأمول أن يسرّع القضاء في أمر الشكوى، وأن يُصدر حكما يوضح للرأي العام الحقيقة في الذي نشرته الصحيفة، فإذا كانت الأخيرة كاذبةً فالقانون التونسي ينصّ على ما تستحقه من عقوبة، وإذا كانت صادقةً فلكل حادث حديث.
واقعة "الأنوار" هذه موصولةٌ براهن الصحافة التونسية التي تعرّفنا متابعة أخبارها وشؤونها أن الركاكة وقلة الحياء وانعدام المسؤولية صارت من تفاصيل ظاهرةٍ في مشهدها العام، إلا بعض النظيف والنزيه فيها، كما أن مباذل غير قليلةٍ باتت عليها صحافةٌ كانت تعدّ رصينة فصيّرتها صفراء. والبادي أن ذلك كله يجري في وجهةٍ واحدة، وهي استهداف خصوم الرئيس قيس سعيّد ومعارضيه ومخالفيه، بالتشنيع عليهم وتأليف عجيب القصص والإشاعات الفالتة عنهم. تزيد الحال سخافةً مواقع التواصل الاجتماعي، وقد صارت هذه من ملاعب العبث بالحقائق، واستباحة هذا وذاك كيفما اتفق، وببذاءة موصوفة أحيانا. ومن ذلك اتهام صحيفة الشروق وزير الصحة السابق، عبد اللطيف المكّي (من "النهضة")، بتهريب أسلحة إلى ليبيا على أنها أدوية، ما دفع الرجل إلى مقاضاتها. وثمّة دعوى قضائية رفعها أمين عام حزب العمال، حمّة الهمامي، ضد موقع إلكتروني "يساند قيس سعيّد بالكذب والتزوير" (بحسبه)، بسبب تأليف هذا الموقع كلاما لم يقله عن الجيش وسعيّد.
حدث أنّ راشد الغنوشي كسب قضيتين رفعهما في لندن ضد صحيفة وموقع إلكتروني، وحُكم له بأموالٍ مستحقّة غراماتٍ عليهما. .. هل سيكسب القضية ضد "الأنوار" في بلده؟ هل تتعافى تونس مما صارت عليه من بؤسٍ إعلاميٍّ وسياسيٍّ رثّ؟